«أيّ شرطي على الحدود في أوروبا سيخطر في باله إيقاف موكب زفاف وتفتيش وثائق العريسين؟» دار السؤال بين الكاتب والشاعر الفلسطيني خالد سليمان الناصري وصديقه الكاتب والصحافي الإيطالي غابريال ديل غرانده أواخر تشرين الأوّل (أكتوبر) 2013. الإثنان مقيمان في ميلانو، ويعملان على مساعدة قوافل المهاجرين التي تتخّذ من المدينة الإيطالية طريقاً نحو السويد، جنّة الهاربين من الموت. السؤال تحوّل إلى مشروع فيلم في رأس صديقهما المخرج الإيطالي أنطونيو أوغوليارو.

أصرّ الرجل: لا بدّ من العمل بسرعة، فالتزامات العمل لا تسمح بأكثر من أسبوعين من الإعداد. كيف سنموّل الفيلم مع عملياته الفنيّة؟ موقع التمويل الجماعي الشهير www.indiegogo.com كفيل بتحقيق ذلك. هكذا، بدأ تصوير «أنا مع العروسة» (2014 ــ99 د.)، مرافقاً خمسة مهاجرين «غير شرعيين» في رحلتهم من ميلانو إلى مالمو السويديّة، خلال الفترة ما بين 14 و18 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013.
ثلاثة آلاف كيلومتر يقطعها سوريون وفلسطينيون ضمن أراضي أوروبا (القلعة الحصينة) هاربين من جحيم الحرب السوريّة. العرس تنكّر جماعي يُفترَض أن يكون محكماً. «عبد الله» في دور العريس. «منار»، الطفل الموهوب في غناء الراب، ووالده «علاء»، و«أحمد» وزوجته «منى» يضطلعون بصفات الأهالي. ماذا عن العروس؟ يتّصل المخرجون بالممثّلة الفلسطينيّة المقيمة في إسبانيا تسنيم فارض، فتتحمّس على الفور وتنضم إلى الفريق.
موقع
www.indiegogo.com
تكفّل بتمويل المشروع


هي ليست غريبة عن الأجواء. لقد عاصرت مأساة مخيّم اليرموك في دمشق، وظهرت في فيلم «شباب اليرموك» (2014 ــ 49 د.) للفرنسي أكسل سالفاتوري ــ سينز. أصدقاء أوروبيّون يحضرون كمدعوّين إلى العرس. المخرجون الثلاثة لا يمانعون العمل كمهّربي بشر أيضاً. يتحدّون قوانين الهجرة في أوروبا، مخاطرين بقضاء خمسة عشر عاماً في السجن ودفع غرامات مالية هائلة. سؤال مؤلم يُطرَح: أين هي 17 دولة أوروبيّة أعلنت ترحيبها باللاجئين السوريين عبر وسائل الإعلام؟ المفارقة أنّ هذا يحدث يوم حصول الناصري على الجنسيّة الإيطاليّة. شعور غريب بامتلاك جواز سفر والانتماء إلى دولة، أيّة دولة. فرحة ممهورة بالدموع. اليوم سنمزج البيرة مع الزعتر.
سواءٌ عند جبال غريمالدي سوبريوري على الحدود الإيطالية ــ الفرنسيّة، أو في ليل نانسي الفرنسيّة، أو عبر كوبنهاغن الدنماركيّة، يعبر الموكب بترقّب قاتل. لا بأس في استحضار فيلم «الحدود» لدريد لحام ومحمد الماغوط، وأغنيات شعبيّة تعين على الترحال. حمل أليم من الذكريات على كتفَيْ كل منهم.
«لا للحدود» تكتبها تسنيم على الجدار، وتُصرّ على أنّ رؤية العالم حق طبيعي لأيّ إنسان. البحر للكل، الحياة للكل. تروي ذكريات مريرة في المخيّم الذي دفع ثمناً باهظاً. «عبد الله» يتذكّر أيام السكن الجامعي. يبكي رفاقاً غرقوا أمام عينيه في رحلة 11 تشرين الأوّل2013. اللحظات الكابوسيّة لإلقائه وسط الجثث المنتشلة لا تفارقه. يكتب أسماءهم بالأسود على جدار يحتفظ بآثار من سبقه إلى هنا. «علاء»، بدوره، كاد يُفرم تحت مروحة القارب. تغريبة المقهورين واحدة في شريط قائم على مخالفة القانون.
شعب مثخن بالجراح، اعتاد الأهوال من صبرا وشاتيلا مروراً بقهر المخيمات وانتهاءً بقاع المتوسط. وشعب يكابد حرباً صبّت لعناتها على الجميع، ليهيم على وجهه في شتّى الأصقاع. كل شيء يفضي إلى قوارب الموت. هنا، تدفع الضحيّة 1000 دولار أميركي ثمن موتها.
ولكنّهم أناس مدهشون في القدرة على الاحتمال والضحك برغم كل شيء. شخصيات من لحم ودم وهويّة. هناء وطرافة وأرواح حلوة. يحبّون الحياة ويشتهون النبيذ الفرنسي. خلال الرحلة، نظنّ أنّنا معهم. نحبس أنفاسنا، فيما السيارة تقطع الأوتوستراد ليلاً. ثمّة ترتيبات لوجستيّة وأمنية. لا بدّ من التأكّد من خلوّ الطريق من التفتيش، وتفقد شحن الموبايلات وحتى أكمام القميص. ظهور شعراء مثل محمد مطرود ورائد وحش وتمام هنيدي يضفي شعوراً بالألفة.
«أنا مع العروسة» شريط مرهف ومثير للشجن. «فيلم طريق» يغلّف قضيّته الكبيرة بطبقات من السلاسة والذكاء. الكاميرا مهاجر غير شرعي أيضاً. تذوب في الرحلة، فتكشف نفسها أو تتلصّص بحسب الضرورة. تبقى قلقة ومرتابة مع إحساس أصيل بعدم الشعور بالأمان، تماماً مثل الأشخاص الذين تتابعهم.
الفيلم يبني نفسه بنفسه. لا مجال للضبط أو الإعادة. بعض اللحظات خارجة عن السياق، أو طويلة أكثر من اللازم كما في مشاهد الغناء والشعر. موضوع الهجرة غير الشرعيّة طُرح في أفلام عديدة، معظمها أميركي حول عبور الحدود مع المكسيك. رائعة توفيق صالح «المخدوعون» (1972 ــ 107 د.) لا تُنسى كذلك. الفارق هنا أنّ الفرح متواصل من السياق حتى النهاية، كما أنّ الحاضر أكثر طزاجةً وتأثيراً.
في «مهرجان البندقية السينمائي» الذي اختتم أخيراً، حظي «أنا مع العروسة» باستقبال لافت، ونال جائزة مجمّع نوادي السينما الإيطالية. الأبطال الذين نجوا من أسماك القرش وشرطة الحدود، مشوا على البساط الأحمر. العرس الحقيقي بدأ الآن.