«مجزرة» كارلوس شاهين وياسمينا ريزا هي مجزرة لا قتلى فيها ولا دماء. إنهم أربعة أفراد في غرفة جلوس يتعرون من كل الموروثات الحضارية التي اكتسبوها، يخلعون الأقنعة واحداً تلو الآخر لتبدأ جلسة التحطيم: تحطيم الآخر، واكتشاف تكسّر الذات. تبدأ القصة عند زيارة الزوجين آلان وآنيت (فادي أبي سمرا وكارول الحاج) اللذين يودان الاعتذار عن فعلة ابنهما فرديناند من الزوجين ميشال وفيرونيك (رودريغ سليمان وبرناديت حديب).
الأخيران هما والدا برونو الذي تعرّض للضرب المبرح على يد فرديناند. لقاء الاعتذار ومصالحة الأطفال، يتحول إلى جلسة تعنيف متواصلة تبلغ مستويات عدة. هذا العرض مبني على نص مسرحي للكاتبة الفرنسية ياسمينا ريزا (راجع مقال الزميلة أحلام الطاهر) وقد نال رواجاً عالمياً منذ ظهوره الأول على الخشبة (٢٠٠٦) على يد مسرحيين وسينمائيين من أنحاء العالم. بعدما حوّله المخرج رومان بولانسكي الى فيلم (٢٠١١) من بطولة جودي فوستر وكايت وينسلت، جاء دور المخرج اللبناني المقيم في فرنسا كارلوس شاهين لتقديم هذا النص إلى الجمهور اللبناني على خشبة «مسرح مونو».
لبننت رندا الأسمر النصّ
محافظةً على عوالم ريزا وموسيقى كلماتها

كارلوس شاهين الذي عرفه الجمهور اللبناني ممثلاً في فيلم غسان سلهب «أرض مجهولة»، ينحاز الى النص على خشبة المسرح فهو أولاً وآخراً يبقى «انسان النص ورجل الكلمة» على حد قوله. أراد المخرج البحث عن نص قوي يطل من خلاله على الجمهور، خصوصاً أنها ستكون المرة الأولى لكارلوس كمخرج على الخشبة اللبنانية. كان يبحث عن نص لا يخلو من العمق وقادر على مخاطبة الجمهور اللبناني معاً، فوقع على ياسمينا ريزا التي تميزت في هذا النص بالتعبير عن «عالمها الخاص الذي يتسّم بسوداوية فريدة في رسم العالم بشكل كوميدي أنيق». إنّها كوميديا عميقة إذاً تنقل للمشاهد الحياة البرجوازية للثنائيين بنظرة قاسية: نظرة ياسمينا ريزا.
كارلوس شاهين الذي انتقى ممثليه معتمداً على حدسه الداخلي، أراد أن يكون وفياً في نقل نص ريزا. حاول «الدوزنة» هو والممثلة رندا الأسمر (مترجمة النص الى العربية) بين اللبننة والحفاظ على عوالم ريزا وموسيقى كلماتها ووقع معانيها. استغرق العمل على النص ما يقارب ستة أشهر، وخضع لمراحل وتغييرات عدة وتم التزام التوصيات والشروط التي فرضتها ريزا بعدم التغيير في أحداثه أو حذف مقاطع منه. ليس ذلك مستهجناً لدى الأسمر التي تقدّر النص وتحترم كثيراً النمط الفرنسي الذي يعتبر «الكاتب ملكاً للنص لا المخرج».
واذا كانت غلبة «قدسية النص» محبّبة لدى المخرج والأسمر، فقد كان مستغرباً لدى فادي أبي سمرا. هذا الممثل الذي تعود في أعماله السابقة على بناء النص عبر الارتجال على الخشبة وليونة في التعاطي مع النصوص المسرحية المكتوبة، وجد في «مجزرة» تجربة مغايرة لها حسناتها كما سيئاتها. الدور الذي يلعبه أبي سمرا هو دور آلان المحامي، والد فرديناند الذي حطم أسنان برونو وزوج آنيت التي تعمل في إدارة أحد المعالم الأثرية. يقضي معظم وقته على الهاتف. ولدى لقائه عائلة برونو واضطراره للجلوس معها والانغماس في تفاصيل حياتها، يبدأ بإطلاق النظريات حولها. هذا المحامي الذي غالباً ما يلعب دور الوسيط للبحث عن العدالة أو الحلول لبعض النزاعات في المحاكم، يصبح جلاد الآخرين، يطلق العنان لغريزته في غرفة جلوس ميشال وزوجته فيرونيك.
أما فيرونيك التي تؤدي دورها برناديت حديب، فهي تلك المثقفة التي تعد كتاباً عن دارفور وتحاول الحفاظ على هامش انسانيتها في لقاء الصلح هذا، فتتكشف لها أمورٌ كثيرة صادمة أحياناً. برناديت المعتادة على نصوص وأعمال أكثر عبثية وأقل كلاسيكية، قررت عدم مشاهدة فيلم بولانسكي: أرادت بناء شخصية فيرونيك من الصفر، حجراً فوق حجر من دون أن تتأثر بشكل أو بآخر بدور فيرونيك الذي تؤديه جودي
فوستر.
على عكس زوجته فيرونيك، لا يسعى ميشال (رودريغ سليمان) إلى تغيير العالم، هو مجرد تاجر خرضوات، غير مبالٍ يسعى الى «تطرية الأجواء في تلك الجلسة» الى أن يبلغ مرحلة يخلع قناعه هو الآخر لينقض على زوجته. آنيت (كارول الحاج) لا تحظى باهتمام زوجها، تحب ابنها كثيراً وجدت أيضاً في غرفة الجلوس تلك فرصة للانقضاض على زوجها.
لدى لقائنا فريق عمل «مجزرة» (انتاج «فانوس للإنتاج والترويج»)، وجدنا أن ما يتحدث عنه العرض هو أكثر من جلسة مصالحة بين أطفال: نص ريزا يحوّل أهل هؤلاء الأطفال الى مجموعة من القاصرين. قاصرين عن كل تلك المظاهر والسلوكيات المزيفة التي فرضتها عليهم فصول الحضارة المقنعة. قاصرين عن الصورة التي بناها كل منهم عن ذاته: يكفي استفزاز واحد كي تخرج كل تلك التراكمات، وتتحول غرفة الجلوس الى غابة الانقضاض على الآخر فتتعرى الشخصيات الأربع التي تعاني من الضغوط اليومية، والقلق ونقص الحب وبالتالي نقص في إعطاء الحب... لعلها الوحدة!

«مجزرة»: 20:30 بدءاً من الغد حتى 2 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/202422