الليلة في «قصر الأونيسكو»، تقام حفلة موسيقية بقيادة العميد المتقاعد جورج حرو، تحييها وتريات الأوركسترا الشرقية ونحاسيات الأوركسترا الغربية بمرافقة كورال يجمع من البالغين وتلاميذ المدارس ما يملأ المسرح بجو النشيد الصاخب، وينفذ توزيع قائد الأوركسترا لأناشيد وأغنيات وموسيقى سير (مارش) للأخوين فليفل.
في بداية القرن العشرين، عقب ظهور عصر النهضة الموسيقية، أطلق سيد درويش نشيد "بلادي" الذي اقترح فيه قالباً مستقلاً للنشيد العربي، لا يحاكي القوالب الغربية، بل كان يخرج إلى ما هو غريب عنها (كاستعمال الميزان الثلاثي في النشيد)، ليفيه من التجدد ما يجعله معاصراً لأحداث الثورة المصرية. ربما كان يقف وراء ذلك رفض المبدع المصري للاستعمار العسكري والثقافي آنذاك، أو ببساطة عدم قدرته المادية لدراسة قواعد الموسيقى الغربية وأسسها ومتابعة روادها.
خلال هذا الوقت، كان الأخوان محمد (1899 ــ 1986) الذي كان قد عاد من اسطنبول، وأحمد (1906-1995) فليفل قد اشتريا آلة البيانو وباشرا تعلّم أسس العزف. وكانا قد تشربا أسس التجويد حين كانا يستمعان إلى جدهما الذي كان مؤذناً في المسجد العمري الكبير. قبل ذلك، وخلال إقامته في تركيا في مدرسة ضباط الاحتياط خلال الحرب العالمية الأولى، التحق محمد بدار الفنون ليتابع دراسته في منبع الموسيقى العسكرية، إسطنبول.
عرض أوركسترالي لأعمالهما بحلة توزيعٍ جديدة

اقترح فليفل عصراً جديداً للنشيد، يحاكي اللحن الغربي (الفرنسي خاصةً)، ويرفض بكلماته كل أشكال الانتداب، مبرراً فكرة الاقتباس اللحني بالانفتاح والتطور ومعاصرة البلدان المتقدمة. لقيت هذه الفكرة استحساناً لدى الرأي العام الذي لا يزال حتى اليوم يبرر الاقتباس بالانفتاح والتطور، واضمحلت فكرة سيد درويش لقالب النشيد الذي ما زال حتى اليوم يأخذ الشكل الذي أسسه الأخوان: ثلاثة أقسام تنتهي بـ "تريو" ذي طابع إيقاعي يطغى على انسيابية درويش اللحنية. من جهةٍ ثانية، يأتي مقام الحجاز الذي نسمعه في حوالي 40% من أعمالهما، كتذكير بالمكان والزمان، لتنفضح في الموسيقى مظاهر الشجن والتقلب والضياع الثقافي وعدم الاستقرار، في صورة تحاول أن تخفيها كلمات الأناشيد العربية الجبارة. إلى جانب خدمتهما العسكرية في موسيقى الدرك، درّس الأخوان فليفل الرياضة والموسيقى في المدارس الرسمية، وعلما في الكونسرفاتوار اللبناني ومدارس «المقاصد» و«دار المعلمين». كما يعود لهما الفضل في اكتشاف صوت فيروز، حين جالا على المدارس الرسمية لانتقاء مغنين لإنشاد «نشيد الشجرة»، فوقعت الصدفة على صوت نهاد حداد حين كانت في الـ 14 من عمرها. أدخلاها الكونسرفاتوار قبل إرسالها إلى الإذاعة اللبنانية وعرض صوتها على كبار الملحنين آنذاك مثل حليم الرومي، خالد أبو النصر، توفيق الباشا وغيرهم.
في عام 1923، أسسا «فرقة الأفراح الوطنية» في ظل الدولة العثمانية، قبل أن تأخذ اسماً آخر في ظل الانتداب الفرنسي، هي «فرقة موسيقى الدرك» (1942) فأطلقا "بلاد العرب أوطاني" (كلمات الشاعر فخري البارودي)، و"موطني" الذي اعتمدته دولة العراق كنشيد وطني رسمي لها منذ عام 2003. علماً أنّ الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان كتبه، ولحنه الأخوان ليكون نشيد فلسطين غير الرسمي في عهد الانتداب الانكليزي، ليستبدل بـ "الفدائي" بعدما عارضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي استخدام "موطني" في جلسات المفاوضات. عام 1938، لحنا قصيدة "حماة الديار" للشاعر خليل مردم في مسابقة أعلنت عنها الحكومة السورية، ففاز لحنهما بالمرتبة الأولى واختاره الشعب السوري كنشيد وطني رسمي للدولة السورية بعدما جال ابنا الأشرفية مدارس البلاد ولقناه للتلاميذ والأساتذة... عملٌ لم يكن سهلاً في تلك الحقبة. أما "راسخٌ عزمنا وطيد" للشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، فاقترحه جمال عبد الناصر كنشيد الشعب العربي بعدما سمعه بإصرارٍ من الأخوين فليفل اللذين لحنا له أيضاً "لبيك عبد الناصر" (الشاعر سليمان العيسى).
لحن فليفل أغنيات تربوية للأطفال تعالج مواضيع بيئية واجتماعية ووطنية، منها ما هو يدرس حتى اليوم نذكر منها "مين اللي بدق الباب"، و"زرعنا جزرة في وسط البستان"، "دو دو دم دم يا عصفوري" التي استخدمت لتلقين النوتات الموسيقية للأطفال قبل أغنية «دو، ري، مي» التي جاءت في الفيلم الأميركي «صوت الموسيقى» (1959) بحوالي ثلاثة عقود.
تكريماً لجهود الأخوين فليفل، سيقام عرض أوركسترالي لأعمالهما كما سبق أن ذكرنا، وستكون الأعمال بحلة توزيعٍ جديدة، أدخل عليها الدكتور حرو كما ذكر لـ «الأخبار» أفكاراً موسيقية كلاسيكية غنية بالهارموني، لتعطي إنطباعاً ميلودياً أكثر منه إيقاعياً. يلي الأمسية توقيع كتاب "اللحن الثائر" للباحث والكاتب المسرحي محمد كريم والعميد المتقاعد الدكتور جورج حرو، قائد أوركسترا الجيش سابقاً. يروي هذا الكتاب سيرة حياة الأخوين، والمراحل السياسية التي رافقتهما. أما في قسمه الثاني، فيجري حرو تحليلاً موسيقياً لأعمال فليفل التي تصل إلى 718 بين أناشيد وأغنيات تربوية للأطفال وموسيقى «سير» وترانيم دينية إسلامية ومسيحية، ليوثقها في قوالب عدة تصنف الأعمال حسب الموضوع والتوزيع الآلي والسلالم الموسيقية المستخدمة والشعراء الذين لحن لهم الأخوان فليفل، والكتب الصادرة لهما.