ليس المشهد الليبي الحالي المليء بالتشظيات والتطاحنات الداخلية إلا امتداداً لمخلّفات «ثورة فبراير» ضد نظام القذافي، وفشل الفرقاء السياسيون في تحقيق المصالحة الوطنية وطي خلافات الماضي. صارت المدن الليبية التي كانت تدعم نظام القذافي، منكوبة ومحترقة عوملت من قبل الثوار كـ «غنائم» تؤخذ بمنطق الانتقام.
لذلك اختار المخرج الليبي الشاب عاطف الأطرش تسليط الضوء على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإنساني لهذه المدن التي أيدت القذافي ودفعت الثمن بطريقة مهينة.
اختار الأطرش لشريطه الوثائقي (52 د) عنوان «مدن الخوف» المقتبس عن ديوان للمحامي والشاعر الليبي عبد السلام المسماري المغتال بعد الثورة وقد كان صديقاً عزيزاً لعاطف. يعالج الفيلم الذي عرض أخيراً في «مهرجان أيام بنغازي الثقافية» موضوعاً يكاد يكون «تابوه» في ليبيا ما بعد القذافي خوفاً من الوقوع في دائرة الاتهام بمعاداة الثورة. على عكس الأفلام الوثائقية التي غزت ليبيا بعد إسقاط القذافي، لم يتغن شريط عاطف الأطرش وأصدقائه بـ «ثورة 17 فبراير» بل ركز على الجانب المظلم لهاته الثورة من خلال الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية والتهجير والترحيل وتجذّر الخوف في المدن والقرى التي دفعت الظروف أبناءها للوقوف إلى جانب القذافي مثل: بني وليد، سرت، تاورغاء.
يقول الأطرش أحد المشاركين في الثورة الذي اعتقل في أولى أيامها وقضى جميع أيامها في السجن إلى أن سقطت طرابلس، إن القائمين على العمل اشتغلوا بإمكانياتهم الذاتية وباستقلالية تامة عن أي جهة. ويتابع «اخترنا أن نناقش وضعية المدن التي وقفت مع القذافي خلال الثورة.
وثائقي يرصد
حال المدن الداعمة للقذافي

نظام القذافي كان ديكتاتورياً للأسف، إلا أنه ظهرت طغمة أشد ديكتاتورية منه، ما أدّى إلى تأزيم الوضع ووصول الأمور إلى النقطة التي وصلت إليها اليوم. كلنا مواطنون ليبيون متساوون في الحقوق والواجبات رغم اختلاف انتماءاتنا، وهذا ما خرجنا لأجله في الثورة، لكن ما يحصل هو العكس تماماً».
من خلال فيلمه الذي استعمل فيه شهادات حية ولقطات من أرشيف الثورة، حاول الأطرش إيصال رسالة إلى الليبيين مضمونها أنّ ليبيا مهددة بالضياع في حال استمر هذا الصراع الشرس بين المدن وتفضيل مناطق على أخرى.
يقول الأطرش في حديثه لـ «الأخبار»: «هذا الفيلم تناول الجانب الإنساني للحرب. حاولنا استدرار العاطفة الإنسانية نحو خصوم الثورة، فهم أولاً وأخيراً ليبيون مثلنا، ولا نرضى أن نتجاوز في المظالم. من أجرم يحاكم والبريء لا يتم ظلمه بهذا الشكل».
واجه الأطرش، المخرج والمنتج في آن وفريق عمله الكثير من العراقيل والمصاعب خلال التصوير والإعداد لهذا الوثائقي بسبب تخوف الناس من الحديث عن تجاربهم القاسية خشية التعرض للانتقام من قبل الميليشيات المسلحة المنتشرة في المدن الليبية. كما لم يسلم العمل من الانتقادات من المحسوبين على الثورة الذين اتهموا القائمين عليه بأنهم من مناصري القذافي. لكن عاطف الأطرش عازم على دق ناقوس الخطر حتى لا يعاد استنساخ التجربة القذافية وتضاف مدن أخرى لدائرة الخوف. يقول: «لا يمكن أن أكون مناصراً للثورة وأمارس ما كان يمارسه القذافي وبشكل أقبح وأبشع».