في ظنّي أنّ أهمّ «كتابٍ عربيّ» في دعم ثورة الجزائر بين عامي 1955 و1962 عنوانُه مجلّة «الآداب». ذلك أنّ هذه المجلّة لم تحتوِ عصارةَ ما أنتجه مبدعون عربٌ في تأييد تلك الثورة فحسب، ولا مقالاتٍ مهمّةً في عرض تاريخِها وتاريخِ الجزائر السياسيّ والثقافيّ فقط، بل كانت أيضاً بمثابة رابطٍ يصلُ ـ عبر قضيّة الجزائر العادلة ـ مبدعي المشرق العربيّ بمغربه، وباحثي العرب بباحثي فرنسا الأحرار.
سأقصر مداخلتي على بعض معالم «الحدث الجزائريّ» كما تمثلت في القصائد والأبحاث والمقالات المنشورة بين ذيْنك العامين. وأبدأ بالقصائد.

القصائد

هي إحدى وخمسون قصيدةَ: أربعٌ منها لعلي الحلّي (العراق)، وثلاثٌ لكلّ من سليمان العيسى (سوريا) وحسن فتح الباب (مصر)، واثنتان لكلّ من أبي القاسم سعد الله (الجزائر) ونجيب سرور (مصر) وبدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وشفيق الكمالي وكاظم جواد (العراق). أما مَن اكتفوا بقصيدةٍ واحدةٍ عن الحدث الجزائريّ، فيتوزّعون على سوريا (5) والعراق (4) وفلسطين (3) ولبنان (3) ومصر والأردن والسودان والجزائر (1).

من القصائد اللافتة ما يأتي:
1) سليمان العيسى (8/ 1955)، قصيدة «جرحُنا ذاك الذي ينزفُ ناراً وكفاحاً»، مهداة إلى ثوّار الجزائر، «وقودِ الفجر العربيّ الجديد»، وجاء فيها: «في عروقي أنتَ، في آهاتنا، في كلِّ خاطرْ/ يا دويَّ الصيحةِ الحمراءِ في قلبِ الجزائرْ/ لا تعاتبْني، تمنّيتُ لو أنّي جرح ثائرْ،/ طلقةٌ حمراء، لحنٌ في فم الثوّارِ هادرْ».
2) بدر شاكر السيّاب (3/ 1956)، قصيدة «في المغرب العربيّ»، مهداة إلى «المجاهد العربيّ الكبير مَصالي الحاج»، وتنتهي بالأبيات الرائعة: «تمخّضتِ القبورُ لتنشرَ الموْتى ملايينا/ وهبّ محمد وإلهُه العربيُّ والأنصار:/ إنّ إلهَنا فينا».
3) أحمد عبد المعطي حجازي (2/ 1957)، قصيدة «أوراس»، التي تبدأ بحادثة أسر أحمد بن بلّا، وتربط بين استعمار المغرب وفلسطين اليوم ومجدِ العرب السابق في الأندلس، لتنتهي بالأبيات الآتية: «يا زمناً راح/ أنذا أبكيكَ...ولكنّي/ أشهدُ ميلادَكَ في أوراس/ فاشتدّي أيّتها الريحُ العربيّة/ دُوري في نارِ الحريّة».
4) محمد الفيتوري (1/ 1958) وعنوانُها «رسالة إلى جميلة»، مستوحاةٌ من حياة الثائرة الجزائريّة المعروفة. ومن أبياتها: «إنّكِ قبرُ الإمبراطوريّة/ إنّك تسقينَ بآلامِكِ/ أشعّةَ الشمسِ الجزائريّة/ إنّكِ تمشينَ بأقدامِكِ/ فوقَ جلالِ الإمبراطوريّة...»
5) نزار قبّاني (4/ 1958)، قصيدة «جميلة بوحيرد»، ومطلعُها: «الاسم: جميلةُ بوحَيرَدْ/ رقمُ الزنزانةِ: تِسعُونا/ في السجن الحربيّ بوَهْرانْ/ والعمرُ اثنانِ وعشرُونا...» وتنتهي بالآتي: «ما أصغرَ جان دارك فرنسا/ في جانبِ جان دارك بلادي!»
يلفت في قصائد «الآداب» المنصبّة على الهمّ الجزائريّ إلى الأمورُ الآتية: 1) أنّ كثيراً منها لم يراعِ استخدامَ الصور المبتكرة.
أهمّ ما ترجمتْه «الآداب» مقالاتٌ
صدرت لاحقاً في كتاب لجان بول سارتر بعنوان «عارُنا في الجزائر»

وهذا يشير إلى تغليب المجلّة أحياناً الهمَّ السياسيَّ التحرّريّ على الجِدّة التعبيريّة ـ وهو أمرٌ متوقّعٌ (ومفهومٌ) من مجلةٍ هدفُها الأساسُ هو التزامُ الاستقلال وبدعمِ الثورات العربيّة. 2) امتلاؤها بنبرةٍ انتصاريّةٍ عظمى. 3) أنّ أكثرَ ناظميها عراقيّون، يليهم في الترتيب سوريّون. وهو ما يثبت أنّ «الآداب» كانت بمثابة رئةَ الثورة الجزائريّة في المشرق. 4) أنّ أكثر من 10 قصائد مهداةٌ إلى جميلة أو مستوحاةٌ من بطولاتها. 5) أنّ بعض القصائد، تحت ضغط الحماسة، أخذت نساءَ فرنسا بجريرة المستعمِرين، خلافاً لخطّة «الآداب» الطاغية (على ما سنرى). فمثلاً حقّر نزار قبّاني وشفيق كمالي، أثناء إشادتهما بجميلة بوحيرد، نساءَ فرنسا: الأوّلُ في قوله عنها «لم تعرفْ كنساءِ فرنسا/ أقبيةَ اللذّةِ في بيغال»، والثاني في قوله عنها: «جميلة يهابُها الرجال/ أبناءُ مريانا/ مِن كلّ وغدٍ أمُّه في ‘السينِ’ محظيّة/ وأختُه على فراش العُهرِ مرميّة!»

الأبحاث والمقالات

تمْكن قسمةُ الأبحاث والمقالات المعنيّة بالثورة الجزائريّة في مجلة «الآداب» إلى أربعة أقسام:
أولًا: افتتاحيّات سهيل إدريس. ويلاحَظ فيها أمورٌ عدّة، أبرزُها: أ) سخريتُه من «ديمقراطيّة» فرنسا الزائفة (راجع، افتتاحيّته لعدد مايو 1956). ب) ثقتُه بالانتصار، وهي ثقةٌ لم تصدر عن محض تفكيرٍ رغبويّ بل وليدةُ صعود التيّار الناصريّ. ج) تركيزُه على البعد العربيّ لثورة الجزائر، وقد كتب في العدد 6/ 1957 أنّ دلالة الانتصار في الجزائر «هي تماسكُ الوطن العربيّ» بما «يبشّر بإمكان تحقيق الوحدة [العربيّة]». د) دخولُه في صلب النقاش الفرنسيّ حول قضيّة الجزائر، من ذلك إشادتُه في العدد 11/ 1960 بالفرنسيين الأحرار، وعلى رأسهم سارتر الذي قال إنّ الفرنسيين الذين يساعدون جيشَ التحرير الجزائريّ «لا يضعون أنفسَهم في خدمة قضيةٍ أجنبيةٍ بل إنّهم يعملون من أجل أنفسهم وحريّتهم ومستقبلهم»، وفي المقابل شجب إدريس موقفَ وزير الثقافة أندريه مالرو الذي وقّع بياناً حكوميّاً اتّهم أولئك الأحرارَ بأنّهم خياليّون ورومانتيكيّون، كما شجب موقفَ مورياك الذي كان لايزال «ضائعاً بين حبّه لديغول، وإيمانه بمبادئ الحريّة».
ثانياً: دراسات وخطب ورسائل مترجمة من الفرنسيّة. ومنها ترجمة عايدة مطرجي إدريس (في عدد يوليو 56) لرسالةٍ وجّهها جان سوناك إلى فتى فرنسيّ في الجزائر. وقد قدّمت «الآداب» للترجمة بسطورٍ تفيد أنّ العقبة الحقيقيّة من دون تبنّي فرنسا حلّاً صحيحاً لمشكلة الجزائر هي «مغالاةُ المعمّرين المقيمين هناك...الذين يَعزّ عليهم أن يتخلّوْا عن امتيازاتٍ ومصالحَ ومؤسّساتٍ رأسماليةٍ يستمتعون بنعمائها...» ومن سطور هذه الرسالة المعبّرة نقتطف: «إنّي ما زلتُ أؤمن... أنّ الشرق والغرب، إذا ما اجتمعا على صعيد عملٍ جديد، سوف يُنتجان في السنوات المقبلة وجهَ خلاصٍ يقدّمانه للعالم... والجزائر ينبغي أن تكون البوتقة التي تولد فيها...رسالةُ السلام».
ومن الترجمات المهمّة في تلك المرحلة ما جاء في عدد ديسمبر 1956 لكلود بورديه، صاحبِ مجلة «فرانس أوبسرفاتور»، عن خطف فرنسا لزعماء جزائريين أثناء دعواتٍ رسميةٍ وجّهها إليهم بورقيبه في تونس ومحمد الخامس في المغرب. ومن الترجمات البارزة أيضاً «وثيقة بطولة» لجان كو (12/ 1961)، وهي عبارة عن وصف شهادات ضرب وتعذيب لمتظاهرين جزائريين في فرنسا.
بيد أنّ أهمّ ما ترجمتْه «الآداب» في ذلك الصدد هو مقالاتٌ جمعتها «دارُ الآداب» في ما بعد في كتاب واحدٍ لجان بول سارتر، بعنوان «عارُنا في الجزائر». المقال الأول (6/ 1956) هو بعنوان «نظامُ الاستعمار الفرنسيّ في الجزائر»، واستهلّه سارتر برفض الأطروحة القائلة إنّ حلَّ المسألة الجزائريّة يتمّ بتحسين أوضاع الجزائريين، مؤكّداً أنّ الإصلاحات هي «من شأن الشعب الجزائريّ نفسه حين ينتزع حريّتَه». ثم شرّح اغتصابَ الأراضي الجزائريّة طوال قرنٍ من الزمان، وتحدّث عن إبقاء فرنسا مَن تزعم أنّهم «إخوانُنا المسلمون» شعباً من الأمّيّين، واختتم بالسطور الصاخبة الآتية: «إنّ الاستعمار يعملُ الآن على تهديم نفسه، ولكنّه ما يزال يُنْتن الجوّ. إنّه عارُنا. إنّه ينشرُ بيننا وباءَ العِرقيّة. وهو يفرضُ على شبابنا أن يموتوا رغماً عنهم من أجل مبادئَ نازية نحاربُها منذ عشرِ سنوات. إنّ الشيءَ الوحيد الذي نستطيع أن نحاولَه، وينبغي أن نحاولَه هو أن نكافحَ إلى جانب الشعب الجزائريّ لنحرّر ـ في الوقت نفسه ـ الجزائريين والفرنسيين من الاستبداد الاستعماريّ».
أما الفصل الثاني من الكتاب فسبق أن نشرته المجلةُ في العدد الثامن عام 1957 بعنوان «مجنّدون يَشْهدون»، يبدأ بالتنويه بكتابٍ يحمل العنوانَ نفسَه، وهو عبارةٌ عن شهادات مجنَّدين فرنسيين عن «السلب والنهب والاعتداء على أعراض الناس، وعن أنواعٍ من الانتقام من السكّان المدنيّين، ومن الإعدام بالجملة وبلا محاكمة، ومن اللجوء إلى التعذيب لانتزاع الاعترافات أو المعلومات». أما الفصل الثالث فهو ما سبق أن نقلتْه إلى العربيّة عايدة مطرجي إدريس في مجلّة «الآداب» بعنوان «الجلّادون»، وقد خطّه سارتر مقدمة لكتاب «الاستجواب» لهنري أليغ، الذي يروي وقائعَ تعرّضه للتعذيب على يد الجلّادين الفرنسيين من أجل انتزاع أسرارٍ تتعلّق بثوّار الجزائر. مقدّمة سارتر تحثّ الفرنسيين على رؤية وجههم «البغيض» في المرآة بسبب جرائمهم في الجزائر، لكنّ أقوى ما فيها خاتمتُها: «إذا كنّا نودُّ أن نضعَ حدّاً لهذه الأعمال الوحشيّة القذرة الكئيبة، وأن ننقذَ فرنسا من العار وننقذَ الجزائريين من الجحيم، فليس أمامنا إلّا وسيلةٌ واحدة: أن نفتحَ المفاوضاتِ ونعْقدَ السلام».
ثالثاً، عرض أصداء قضيّة الجزائر في الدوريّات الفرنسيّة، ولا سيّما من خلال بابين: «النشاط الثقافيّ في الغرب»، و»كتاب الشهر». خذوا مثلاً تغطية المجلة في منتصف الخمسينيّات، وضمن الباب الأول تحديداً، لبيانيْن صدرا في فرنسا: الأول (وقّعه ماسينيون وآخرون) يطالب الحكومةَ الفرنسيّةَ بالوفاء بوعودِها المقطوعةِ للجزائر بمنحها الاستقلالَ؛ أمّا الثاني فأصدرته «لجنةُ العمل ضدّ متابعة الحرب» ووقّعه أكثرُ من سبعين مثقفاً (بينهم مورياك وسارتر ودوبوفوار وباتاي) طالبوا بعودة المجنّدين الفرنسيين من أفريقيا الشماليّة. وفي العدد الخامس، وضمن الباب نفسه، عرضٌ لرسالةٍ بعثها 357 مثقفاً فرنسيّاً إلى رئيس الجمهوريّة الفرنسيّة يلفتون فيها نظرَه إلى الممارسات الإرهابيّة الفرنسيّة في الجزائر؛ ثم عرضٌ لشهادات جنود فرنسيين نشرتْها «لجنةُ المقاومة الروحيّة»؛ وانتهاءً بعرض كتاب بيير هنري سيمون، «ضدّ التعذيب»، وهو تعذيبٌ شاقٌّ أدّى إلى انتحار محامٍ جزائريّ سجين (أحمد بومنجل) واستقالةِ أستاذٍ في كليّة الحقوق في جامعة باريس (رينيه كابيتان) قائلاً: «ما دامت مثلُ هذه التصرّفات التي لم نرتكبها حتى ضدّ الأسرى الألمان مسموحاً بها في الجزائر من قِبل حكومتي، فأنا لا أشعر بأنّي قادرٌ على التدريس في معهدٍ فرنسيّ للحقوق».
أما باب «كتاب الشهر»، ففيه مثلاً قدّمت عايدة مطرجي إدريس تقريراً مفصّلاً عن كتاب «الجزائر الخارجة على القانون»، لكوليت وفرنسيس جانسون. أهمُّ ما ركّزتْ عليه مطرجي الأسبابُ الحقيقيّةُ للاستعمار الفرنسيّ للجزائر، وعلى رأسها فتحُ منصرفٍ واسعٍ للفائض من سكّان فرنسا، وأسواقٍ لتصريف منتجات المصانع الفرنسيّة. ثم أسهبت في تبيان فظائع الاحتلال كما أوردها الكتابُ: من ذبح الآمنين عام 1832، إلى بيع أساور الجزائريّات وأقراطِهنّ عام 1836 وهي لا تزال على معاصمهنّ وآذانِهنّ المقطوعة، وانتهاءً بإحراقِ القرى بمن فيها. وتحدّث تقريرُ مطرجي عن استعمار الأراضي الصالحة للزراعة، وكيف أنّ ثلث النتاج الزراعيّ هو من الكرمة التي لا تفيد الجزائريين، وأنّ العناية الصحّيّة تقتصر على الأجانب، وأنّ التعليم مكرسٌ لهم أساساً، إلى آخر ذلك من ممارساتٍ تُظهر أنّ الثورة المسلّحة عام 1954 كانت أمراً لا مفرّ منه.
رابعاً، أبحاثٌ بأقلام عربيّة عن الثورة وتاريخِ الجزائر الثقافيّ. صدر أوّلُ مقالٍ عن الجزائر في «الآداب» بعد ثلاثة أشهر فقط من انطلاقة الثورة، وهو للكاتب الجزائريّ عثمان سعدي، تحت عنوان «مشكلة الثقافة في الجزائر». هذا المقال يستعرض بداياتِ الاحتلال الفرنسيّ، ويفصّل في القوى الفعّالة التي أثّرت في التوجيه الثقافيّ لدى الفرد الجزائريّ. ويستكمل سعدي في العدد السابع ما بدأه قبل أربعة أعداد، ببحثٍ عن بذورِ المقاومة الجزائريّة كما تمثّلت في الزجل الشعبيّ بشكلٍ خاصّ. وفي العدد الثاني من عام 1956 مقالٌ لسعدي عن المناضل زيدون بن القاسم، الذي اعتقلته السلطاتُ الفرنسيّة في وهران في نوفمبر 1954 وقضى تحت التعذيب. وفي العدد الثامن من عام 1957 بحثٌ طويل له بعنوان «الأدب الشعبيّ والمقاومة الجزائريّة» منذ ثورة أولاد سيدي الشيخ عام 1864.
وصف سهيل ادريس «معذّبو الأرض» الذي صدر في باريس وصودر على الأثر بأنّه «أعمقُ ما كُتب عن الاستعمار»


طبعاً لم تقتصر المقالاتُ والأبحاثُ المعنيّة بالثورة الجزائريّة على سعدي. فعلى سبيل المثال ثمّة مقالٌ في العدد الثالث من عام 1957 لرئيف خوري (لبنان) بعنوان «الحلُّ الوحيدُ لقضيّة الجزائر»، وفيه يرفض مواجهةَ الذئاب إلّا بلغةِ الظفر والناب، معتبراً أنّ المستعمِرين «لو عقلوا قليلاً» لعرفوا أنّ حلّ المشكلة الجزائريّة لا يكون بالبطش ولا بمحاربة العروبة أو التفريقِ بين العرب والأمازيغ، بل بأن يسلّموا «باستقلالٍ وطنيّ للجزائريين تنبثق منه جمهوريةٌ جزائريةٌ عربيةٌ وطنيةٌ ديمقراطيّة». يلي ذلك بحثٌ لعبد الله عبد الدائم (سوريا)، يستند فيه إلى معلوماتٍ فرنسيّة لينقضَ المزاعمَ عن «مآثر» فرنسا في الجزائر؛ ولكنّه يؤكّد أنّ الإنسان العربيّ، منذ الجاهليّة، لا تهمّه أصلاً السعادةُ والغنى في غياب الحريّة والكرامة.

1962: الدمُ والإباء

كلّما اقتربت الجزائرُ من النصر المؤزّر، تكثّف اهتمامُ «الآداب» بثورتها. ولو أنّ أحدهم تناول مجلّدَ عام 1962 من هذه المجلة مثلاً لاشتبهَ في أنّها جزائريّة. فهذه السنة وحدها تحتوي عشرين مادّةً تنصبّ على الحدث الجزائريّ، بينها أربعُ افتتاحيّات.
من أبرز موادّ هذا العام ترجمةُ سهيل إدريس، في العدد الثاني، لمقدّمة سارتر لكتاب فانون الشهير، «معذّبو الأرض» (سيصدر الكتابُ لاحقاً عن دار الآداب، بترجمة خليل الخوري). وقد كتب إدريس في تقديم الترجمة أنّ سارتر أكبرُ نصيرٍ للحريّة من بين الكتّاب المعاصرين، وأنّ بيته في باريس هُدم جرّاء قنبلةٍ بسبب «موقفه المشرّف من قضيّة الجزائر». وقال إنّ كتاب فانون، الذي صدر في باريس وصودر على الأثر، قد وُصف بأنّه «أعمقُ ما كُتب عن الاستعمار». وفي العدد نفسه كلامٌ على مصادرةِ كتابٍ آخر هو «القدّيس ميخائيل والتنّين» للمظليّ الفرنسيّ بيير لولييت، وكيف أنّ الناشر (جيروم ليندون) كتب إلى وزير الثقافة (أندريه مالرو) مستنكراً مصادرةَ هذا الكتاب فضلاً عن تسعة كتبٍ أخرى نشرتها الدارُ بسبب كلامها على التعذيب في الجزائر.
وتوالت الافتتاحيّاتُ والقصائدُ المفعمة بالتأييد ونشوة النصر. ففي العدد الرابع (نيسان 1962) افتتاحيةٌ بعنوان «تحيّة إلى الجزائر» تضجّ بالحماسة بسبب صدور نبأ وقف النار. أمّا افتتاحيّة العدد الثامن فكانت لعبد الله عبد الدائم، وفيها يؤيّد التوجّهَ الاشتراكيّ والقوميّ العربيّ الجديد الذي ينتهجه بن بلّا ورفاقُه لأنّه الطريقُ الأوحدُ لتفادي «الاستعمار الجديد». وفي العدد التاسع قصيدةٌ لحسن فتح الباب مهداةٌ إلى «الشعب الجزائريّ المنتصر»، تلتها في العدد الحادي عشر قصيدةٌ لعلي كنعان (سوريا) بعنوان «ميلادُ نَسْر» تبدأ كالآتي: «النَّسْرُ في أوراسَ أفرخْ/ أفرخَ النَّسرُ الجريحْ/ سبعاً من السنواتِ عاناها/ فأعطى كلّ ثانيةٍ مسيحْ»!
ونختم جولتنا مع العدد الأخير من عام 1962، وقد تصدّرتْه افتتاحية سهيل إدريس «على أرض الجزائر». فقد سافر سهيل إلى الجزائر للمشاركة في احتفالات الثورة ــ وهذا ما أفعله أنا اليومَ بعد اثنين وخمسين عاماً بالتمام والكمال. وعليه، فاسمحوا لي أن أختمَ مداخلتي كما ختم افتتاحيّته تلك، تحيةً إلى مشاركته الثقافيّة الهائلة في الثورة الجزائريّة المظفّرة، مِنْ على الضفّة الشرقيّة لوطننا العربيّ الكبير:
«خرجتُ ذاتَ ليلةٍ إلى حديقة الفندق الذي كنّا ننزِلُ فيه، وبيدي زجاجةٌ فارغة. وحين انحنيتُ إلى الأرض ومسّتْ يدي الترابَ، سمعتُ أحدَ العاملين في الفندق يسألني: ـ ما الذي تفعله يا سيّدي؟ فأجيبُه من غير أن أرفعَ إليه بصري: ـ أملأ هذه الزجاجةَ من تراب الجزائر. فانحنى أمامي وهو يقول: ـ دعني أملأْها عنكَ. قلتُ: ـ بل دعني أملأْها بيدي؛ إنّ هذا ترابٌ مقدسٌ أريدُ أن أحمِلَ حَفْنةً منه إلى بلدي. وحين عدتُ بالزجاجة، شعرتُ بأنّها تثقُلُ في يدي ثِقَلاً غيرَ طبيعيّ. إنّه تاريخُ الجزائر المجبولُ بالدمِ والإباء».

* مداخلةٌ ألقى أقساماً منها رئيسُ تحرير مجلّة «الآداب» في الجزائر قبل أيّام، على هامش الذكرى الستّين لانطلاقة الثورة الجزائريّة (1 نوفمبر 1962).