الندم؟ ربما هو اعتذار متأخر عن أفعال كنّا نظنّ أننا على صواب لحظة ارتكابها، أو عدم تحقيقها لحظة التفكير بها. كأن أحيط خصرك بذراعي في تقاطع شارع الفردوس مع شارع المتنبي، عصر ذلك اليوم من تشرين الأول، بذريعة أن المطر يستدعي حميمية مشابهة لما يحدث في الأفلام. كان منتظراً أن ينتهي الأمر بيننا، في مطعم «بيكاسو» لتناول وجبة من البطاطا بدون مايونيز. أخبرتِني في الطريق بأنك جائعة أولاً، ونباتية ثانياً، وتعشقين البطاطا ثالثاً، فكان عليّ أن أفتّش عن مكانٍ يحقق رغبتك.
كانت الطاولات والكراسي كلّها باللون الأحمر. ذريعة كبرى للغوص في اشتقاقات هذا اللون لجهة الشهوة، وتفكيك غموض العلاقة بيننا بمراودات حسيّة ملتبسة، تتخللها إشارات خاطفة عن الدماء التي خلّفتها الحرب بالأحمر أيضاً. ستؤجلين زيارتك الثانية إلى دمشق، بسبب غزارة الأمطار في الجنوب. في الأساس لم أعلّق آمالاً كبيرة على هذه الزيارة، ولم أفكّر جديّاً بخصوصية ما، ستجمع بيننا مجدّداً. ربما كان الضجر أحد هذه الأسباب، لكنني في زيارتك المباغتة، اعتبرت الأمر فألاً حسناً، أو وقتاً مستقطعاً، يكسر سأم أيامي المتشابهة. كنت أخبرتك عرضاً، بأن هاتفك ذلك الصباح أنعشني كثيراً، وبأنك تشبهين مزنة مفاجئة، بلّلت جفاف روحي. دردشة ليلية متأخرة في موقع الفايسبوك، أطاحت توقعاتي بالخسران. كأن الكتابة الافتراضية تمنحنا جرعة من الشجاعة في الخوض بما لا يمكن أن نقوله مباشرة، كما أن البلاغة المراوغة بعبارة ملغّزة، أو بإشارة قابلة للتأويل، أو ببيت شعر مستعار، ستحطّم حواجز الرصانة تدريجياً، بانزلاقات لغوية، تبدو للوهلة الأولى بأنها غير مقصودة، رغم أنك كنت تنصبين فخاخك أيضاً، ولكن ليس بالقوة التي كنت اقتحم بها أسوارك، ومحاولتي التسلل إلى مناطق خطرة كنتِ حذرة في الخوض في مياهها الراكدة، تلك التي تقع خارج باب الحشمة، أو على نحوٍ أكثر دقّة، كنت تشعلين الوقود بعود ثقاب غير مرئي، ثم تطفئين النار بعبارة مضادة لا تخصّ الحطب الذي جمعناه معاً، من غابة الغواية المجاورة، كنوع من الهروب، أو إعلان الاستسلام. حدث تعارفنا الأول، باتصال هاتفي منك، قبل خمس سنوات تماماً. كنت مرتبكة إلى حدٍّ ما. أخبرتني بأن هناك ما يخصّني في حياتك، وأنك ستوضحين الصورة حين نلتقي. لم أهتم بالأمر كثيراً، أو أنني نسيته تماماً.
كيف نكتب عن "غراميات مرحة" وسط الجحيم اليومي، وأخبار الموتى، وفواتير الكراهية؟
خمس سنوات؟ إنها عملياً تساوي سنوات الحرب التي لم تنته بعد، لكنها، من ناحيةٍ أخرى، تستحق أن تُروى بطريقةٍ ما. كنتُ قد أجبت صحافية بأن روايتي المقبلة ستكون عن العشق، لكن حرائق الحرب قذفت بأفكاري بعيداً، ولم يعد مقبولاً، أن أكتب عن "غراميات مرحة"، وسط الجحيم اليومي، وأخبار الموتى، وفواتير الكراهية التي كان علينا أن ندفعها للبرابرة كل يوم. كان ينبغي أن أجيبك عن سؤال الكراهية أولاً، وليس سؤال الندم. الكراهية التي كانت مغلّفة بشوكولا فاسدة، وبأحقاد دفينة بطعم الحنظل، وخناجر مسمومة في الظهر، لحظة العناق. كانت الحركة الأولى في لعبة الشطرنج الوهمية هذه، بأن دفعتُ حصاني فجأة نحو الرقعة التي تخصّك بعبارة مباغتة، من خارج أسوار الحذر:"عناق طويل". لم تكن رصانة الدردشات الليلية السابقة تحتمل مثل هذا التحوّل المفاجئ. كنت اختبر ارتباكك أمام عبارة حسيّة من هذا النوع، كما أنني ضجرت من الطواف في جنّة الروحانيات التي كنت تتخندقين خلفها لحماية نفسك من الانزلاق إلى منطقتي البلاغية المكشوفة. كنت نصحتك إثر قراءة بعض نصوصك الشعرية بتقشير اللغة من صمغ العبارات الجاهزة، وتجريف أحاسيسك المبهمة مما يثقلها من فائض التفسير، وأضفتُ عبارة مرتجلة لا أعلم كيف قفزت أمامي فجأة مثل فأر"لا يمكننا دخول قسم الإسعاف من دون نقّالة". وأضفت مفسّراً، أمام إشارة التعجب التي كتبتها، بأن الكتابة هي اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، أو النقّالة البيضاء التي تقودنا إلى غرفة الإنعاش، وتالياً استنشاق الأوكسجين بما يكفي للنجاة. نكتب إذاً، كي نحوّل ثاني أكسيد الكربون إلى أوكسجين، وتحويل الفحم إلى ثمار بريّة بمذاق حريّف، وإلى ترويض آلام الجسد.
محاولة الالتفاف على عبارة «عناق طويل» بوضع أيقونة جاهزة من محتويات الموقع الأزرق تجعل أحد العينين على هيئة قلب صغير، لم تصمد طويلاً، فبعد ثلاث ليالٍ على تلك الدردشة، أضاء المستطيل الأزرق بكلمة "افتقدك". وبمراوغات مشتركة، أنهت دردشتها بكلمة "تصبح على حب". عند هذا الحدّ، أدركت أنها قد بدأت تغوص في الرمال المتحرّكة للمعصية، وقد نَسيتْ معجم التصوّف إلى الأبد. المعجم الذي كان درع السلحفاة الذي تخبئ مشاعرها بين تجاويفه الصلبة. لعبة درع السلحفاة من جهتها، وأشواك القنفذ من جهتي، كانت مسليّة، وربما مثيرة. أن تمدّ عنقها قليلاً ثم تندحر إلى الخلف، فيما كانت أشواك قنفذي تزداد صلابةً. القنفذ والسلحفاة؟ أحاول أن أتذكّر حكاية تخصهما معاً. ذاكرتي لا تسعفني، فلكلٍ منهما لديه حكايته على حدة، فما الذي جمعنا معاً في حكايةٍ واحدة؟ كان عليها كسلحفاة أن تجري سباقاً مع الأرنب وستفوز حتماً، وكان عليّ كقنفذ أن أتعارك مع أفعى وأنتصر عليها. ما أعجبني في سيرة القنفذ أنه كائن ليلي لا ينام، لكنني، في المقابل، لست شوكيّاً إلى هذا الحدّ، وفي حال استنفرتُ أشواكي، فذلك بقصد الدفاع عن النفس من طعنةٍ مباغتة.
كنتِ اخترتِ أن تكوني فراشة، في الألعاب اللغوية التي كنّا نتبادلها في أوقات الضجر. شبّهتك بالغزالة، كتعليق على صورتك التي أرسلتها لي، وأنت تفتحين ذراعيك فوق صخرة جبلية، ثم بين أطلال قلعة مهجورة، منذ ألف عام، بشعر مجعّد وطويل وأسود، كما لو أنك تعانقين غيمة قريبة، لكنك كنت مصرّة على الطيران بجناحي فراشة.
في تعليقٍ لاحق من دون سياق، كتبتْ "أيعجبك شَعري أم شِعري؟" تمهّلتُ قليلاً في الرّد، قبل أن أقع على إجابة مناسبة، فكتبتُ "شِعركِ يحتاج إلى جنون شَعركِ الغجري".
كان شَعرها مثيراً حقاً، وكم رغبت أن أدسَّ أصابعي في ثناياه، فيما كانت هي منهمكة بالتهام ما تبقى من طبق شرائح البطاطا أمامها، ثم تخيّلتُ المشهد ثانيةً، ونحن نتناول الشاي في مقهى "تراتوريا كافيه" في حي الشعلان، بإضافة تفصيلٍ آخر، يتعلّق هذه المرّة بشامة تقع عند طرف عنقها، اكتشفتها بالتفاتة منها، لحظة ارتفاع صوت الموسيقى من الشاشة بأغنية قديمة للمغنيّة ويتني هيوستن، قبل أن تنزلق عيناي إلى صدرها المكشوف قليلاً، من دون توقّعات كبيرة بأن تتطوّر العلاقة بيننا إلى أكثر من ذلك، فهي كانت تجفل مثل غزالة أمام أي عبارة حسيّة ملغّزة. في ذلك الغروب الخريفي من تشرين الأول، سألتني ونحن نغادر المقهى: ما الندم؟
مقطع من رواية قيد الكتابة بعنوان "اختبار الندم".