ورحلت صباح؛ كأنّما هو أوان رحيل الزمن الجميل بأكمله. لا ندري لماذا، لكن في أسبوعٍ واحدٍ رحلت هي، ورحل قبلها بيومين السوري القدير عصام عبه جي، وقبلهما بقليل كان رحيل مريم فخر الدين. إنها مؤاساة عقدٍ فنّي برمته. الفنانة ذات الشعر الأشقر التي ملأت الدنيا وشغلت الناس بزيجاتها، وبقصص عشقها، وبحياتها الطويلة المليئة بالألم، وبابتعاد الجميع عنها رغم كل الضجّة التي يستعدون لإثارتها حولها، وأخيراً ببكاء الكثيرين عليها، رغم أنّهم هم أنفسهم من كتبوا وسخروا طويلاً من حياتها المديدة.
ترحل صباح بهدوء بعدما تنبّأ أكثر من عرافٍ بأنّها سترحل كل عام. في بداية كل عام، يجلس شخص ما يدّعي معرفة لا يملكها ليخبرنا برحيل فنانةٍ لبنانية كبيرة، والكل يعرف أنّهما وحيدتان لا ثالث لهما: فيروز وصباح، حاميتا الفن الجميل. فيروز المبتعدة عن الإطلالات الإعلامية، وصباح التي عرَّت روحها أمام الإعلام. يشير كثيرون إلى أنّ خطأ صباح هو أنّها أدخلت الإعلام إلى كل زوايا حياتها، ولكنّهم يلومون فيروز بالمقدار نفسه لأنّها لم تفعل. تهوى المجتمعات التلصص، ومعرفة الأسرار، والخبايا، فكيف إذا كان هذا الشخص نجماً، ومرغوباً بشدة؟ كانت صباح إبّان شهرتها واحدةً من أهم نجمات الشرق، لا بل يمكن القول إنّها واحدة من القليلات اللواتي كن نجماتٍ «عربيات» بكل ما في «الجمع» العربي من معنى.
الدلوعة التي «أرّخت» لفكرة «دلع» الفتاة اللبنانية في السينما المصرية والعربية، جمعت في الوقت نفسه صوتاً جبلياً قوياً جعل الجميع يوقنون بأنّها فعلاً «شحرورة» كما لقّبت.
كان ذلك المزج الرائع بين جمال الشكل والصوت مدهشاً لدرجة غريبة، الأمر الذي دفع معظم نجوم المرحلة تلك إلى التقرّب منها، وهي كما كانت تقول دائماً: «أنا قلبي رهيف عالحب». كانت تحب بسرعة وجنون، وتتزوّج وتطلّق بالسرعة نفسها. لامها الجميع على هذا الحب والزيجات المتكررة. كانت صباح شمّاعةً تعلّق عليها الصحافة كل أخطاء الفنانين والفنانات، فإذا ما أراد صحافي التسلّي بقصص المشاهير بحث عنها كي يكتب عن حياتها وكيف أصبحت تعيش في غرفة فندقٍ صغيرة بعد كل المجد إبان عزّها. وإذا ما أراد آخر أن يكتب عن زيجات المشاهير، استحضر قصص زيجاتها، وإذا ما أراد التندر بعلاقات الفنانات مع عائلاتهم أخرج علاقة صباح الملتبسة مع ابنتها هويدا. وإذا ما أراد الحديث عن الفنانات المسنّات اللواتي يتزوجن بشباب أصغرٍ سناً تناول زواجها بفادي لبنان. كانت الصحافة مقتل الشحرورة دائماً؛ وهي كانت أكثر طيبةً من ذلك كلّه.
لا يدرك الناس أحياناً، أن من يرونهم على الشاشات هم بشرٌ مثلهم، يشعرون، ويملكون قلوباً. يتأثرون ويحسّون، ويخطئون أكثر لأنّهم تحت الضوء. هكذا كانت صباح بالضبط. كانت الجميلةُ ذات الشعر الذهبي والثياب المزركشة هي التي أدخلت الفن الاستعراضي بشكله الحديث إلى كثيرٍ من استعراضات نجوم مرحلةٍ ما. حتى في «دلعها» كانت تمارس نوعاً من «التمنّع» المرغوب والمحبب، فلم يحصل أن اتهمت مرّة «بالابتذال». يكفي فقط أن نشير إلى أنّ التلفزيونات المصرية لا تزال تعيد كل رمضان السكتش الرمضاني «يا إخواتي صايم» الذي يجمع الشحرورة بالفنان فؤاد المهندس.
تغيب صباح اليوم في تأريخ جديد لجيلٍ ذهبي لن يعود. المحزن أكثر من أي شيء أنّه ليس هناك من بدائلَ حقيقية مكان الراحلين. لا من ناحية الشخصيات، ولا من ناحية الأداء أو الصوت الجميل. تغيب صباح، وتزداد الأمسيات قتامة.