رشا الأمير *يقفل بوّابات أزمنة من ذهب وأوهام وحروب ويرحل.
مَن رفض الموت جهاراً نهاراً، معتبراً أنّ بيتين من شعره كفيلان بإحياء العظام وهي رميم، تركنا ونصب عينيه رحبة قلوبنا والأزل.
أمّا قلوبنا، أو قل ضمائرنا، فقد قسا عليها الأنيق المغناج، يوم سوّلت له نفسه اجتراح وطن أوديسيّ أشبه بالخرافة الكرتونية القاتلة.

ليته كفّر، حيّاُ، عن آثام رؤاه المتلجلجة حول الوطن والتاريخ. ليته خلّص «الرنّة الذهب» المقيمة سبكاً وإيقاعاً في قصائده المبهرة من أوضار ما شاب مواقفه البشريّة من ضيق أفق. بيد أنّه لم يفعل... ومن ذا الذي فعل يا ترى من موتوري بلادنا المعذّبة؟ جمح سعيد عقل الأرز والتقوقع ، منظّراً يمنة ويسرة حول فينيقيا وموقع لبنان من العالم، تاركنا، نحن الراتعين في لذاذة ونضارة أدبه، نعزل الشاعر الفذّ ــ الذي أعاد للعربية حلمها بتأليف معلّقات تنوشم في الأكباد والضمائر ــ عن النرجسي المتنفّج العاشق عبقره والأحاديث التلفزيونيّة المديدة المبكية المضحكة.
مَن عزل الشاعر عن تنظيره شبه التاريخي وشبه اللاهوتي، المسلّي مرّة والمملّ مرّات، ونظر بعين العدل إلى أدبه وموهبته، سلّم أن الرجل من كبراء العربيّة، وأن مكانته ستظلّ محفوظة ما حييت تلك العربية الشاهقة.
ببسالة فرسان كرّوا وفرّوا، وأدبروا وأقبلوا، نازل صاحب القامة الوارفة والملامح الهيلينيّة الشقراء والعينين اللازورديتين، لغته، لا بل لغاته. نازلهنّ نزال قهّار مسحور بمدّه وجزره: أدنى الغابر الموروث بسيوفه ونسوره وأمجاده من واقعنا، ثم فضّل عليه عاميّة رقيقة، فغنّى يارا صاحبة الجدائل الشقر، ومرجحها بحنان تحت أقماره الرومنسيّة، قبل أن يجرّب قلمه ولأيّام وجيزات شعراً فرنسيّاً. ولمّا رأى نفسه نائياً عن العروبة السياسيّة استلهم ثورة أليغييري دانته الذي هجر اللاتينية إلى الإيطالية، لغة العامّة، وافتتح وحده ما أسماه اللغة اللبنانية التي ابتكر لها أبجديّة تكتب بالحرف اللاتيني...
لم تلق دعوات سعيد عقل الأتاتوركيّة رواجاً يذكر، فقفل راجعاً إلى إثاكته، إلى عربيّة قيّض لمحبّيها أوّلاً ومحبّي جزالته وصنعته الرهيفة الصبورة في بساتينها ثانياً، أن يكون، على عصيانه العميق لهندسة عمودها، واحداً من آنق المعبّرين بها والملتزمين دقائقها القاموسيّة. هل سبى سعيد عقل العربية؟ هل أخذها إلى أنجمه وأكوانه المتوهّمة؟ أرجّح أنّه فعل؛ تماماً كما يبتكر آل المواهب الخارقة وأصحاب الدعوات المحصّنة ممالكهم الموحشة والمتوحّشة ــ تلك التي لا تتّسع إلا لأصحابها.
دعا آخر عطّاري العربية مريديه إلى لغاته الأنيقة المقطّرة. دعاهم إلى ولعه المتطرّف بتلك السماء المتخيّلة التي يعرفها، على حدّ قوله، غيباً وتهجئة، يعرفها منكراً ومتنكراً لجروحاتها القاتلة، فصنع لها عطراً لا بلسماً. رأى من لبنان ومن العربية ما يريد. وهذه السماء المثقلة بالبغضاء والتشوّهات والجمال والمواهب لن تودّعه جاحدة. فقد أسس لمنتقديه ومحبيّه أدباً، والأدب مهما شطح يحيي ولا يميت.
بالورد والقبل، بالجمال، وبكلّ ما تنبضه الأفئدة أودّع شاعراً أنوفاً جاهرت وأجاهر بحبّه .
* روائيّة وناشرة