نعرف أن بعض الناس يمتهنون صناعة الفرح في حياتهم. لكن ما كنّا نجهله أن يكون هناك من يقدر على إهداء البسمة للآخرين وخلق السعادة لهم حتى في لحظات تشييعه مثلما كان يفعل طوال حياته. لم نصادف قبلاً مَن يتمكّن بلمسة سحر مذهلة من أن يحوّل مأتمه إلى عرس شعبي تتمايل عليه الأكتاف وتنطلق فيه الزغاريد.
صيحات فرح تمزق الحزن، وتمسح الدموع،
رجل مسنّ خانته دموعه، لكنّه كفكفها سريعاً وانضم إلى حلقة الرقص


وترشق سيارات الموكب بحبات الأرزّ، ثم تقام حلقات الدبكة وسط نفوس مليئة بالبهجة والتفاؤل حرصت على تنفيذ الوصية الأخيرة بحذافيرها.
هكذا هي «الصبوحة»، شمسٌ في حياتها وأسطورة في رحيلها. في «كاتدرائية مار جرجس» في وسط بيروت، انتظرت حشود المحبين والإعلاميين ونجوم السياسة والفن وصول النعش أمس. اصطفت عربات البث المباشر للمحطات التلفزيونية في ضفة مقابلة لـ«فرقة موسيقى الجيش» التي كانت تستعد للعزف.
تسيّد الصمت المشهد للحظات معدودة، سبقت وصول أحد السياسيين اللبنانيين الذي لفت الجموع، فطوقته كاميرات متأهبة لتلقف أي حدث. لكن سرعان ما سحب البساط من تحت قدميه، بمجرد أن شقت الطريق عربة ثبتت عليها صورة «الصبوحة» وغطيت بالورود البيضاء لتصل أمام الكنيسة، فتسرق الأنظار. عربة تحمل جسد نجمة أثارت الجدل في حياتها، وها هي تفعل الشيء ذاته عند تشييعها. تبدأ الفرقة الموسيقية بالعزف تنفيذاً لوصية الراحلة التي نقلتها ابنة أختها المخرجة اللبنانية كلودا عقل، فترد «الشحرورة» الجميل بسرعة فائقة، ينبعث صوتها من المكبرات المثبتة على السيارة وهي تشدو «تسلم يا عسكر لبنان». هنا ينتبه رجل مسن إلى أنّ دموعه خانته فذرفت بغزارة على خديه.يتذكر وصية من جاء لأجلها، فيكفكف دموعه ويهرع ليصفق ويرقص كما كان يفعل كثيرون أمام السيارة التي تقل النعش. وحالما تتوقف السيارة حتى يحمل النعش على الأكف ويطوف بسرعة على وقع المشهد ذاته قبل أن يلفه علم لبنان ويدخل لتأدية الطقوس الدينية. على بعد خطوات، كانت الأيادي تتشابك لمجموعة من المشاهير المصريين الذين جاؤوا خصوصاً لإلقاء التحية الأخيرة على الشحرورة. لبلبة بدت الأكثر تأثراً ترافقها إلهام شاهين وسمير صبري وقد سارت بالقرب منهم المغنية اللبنانية رولا سعد. وبلمح البصر كرت سبحة المشاهير اللبنانيين أمثال رفيق علي أحمد، ورد الخال، ماجدة الرومي، راغب علامة، وليد توفيق ويوسف حداد، فيما غاب السوريون باستثناء المخرج سيف الدين السبيعي. عندما نسأله عن زملائه، يجيب بأنه لم ير سوى المغنية رويدا عطية. لم يطل نجل «فنان الشعب» المكوث بالقرب النعش، بل انسحب مستغرباً سبب هذه الفوضى، وغياب التنظيم، وإن كان التشييع بهذه العفوية. في هذه الأثناء، كانت قناة mtv مع مجموعة من حراسها المفتولي العضلات يجربون احتكار المشهد، ويمنعون الجميع من المرور أمام مساحات واسعة احتجزوها لأجل تغطيتهم حفاظاً على سلامة بثهم. قلما اكترثوا بإيقاف أحاديث صحافية عابرة بينما كانت مذيعتهم ريما نجيم تنفرد بالتغطية من خلال أداء يصلح للحديث عن سيرتها الشخصية أكثر من كونه مركزاً على تشييع فنانة بحجم صباح. لكن الأمر سيمرّ عابراً وسط تجاهل الحاضرين الذين هالهم تشييع بمثابة «كرنفال شعبي» كان للدبكة حضورها فيه. على إيقاع «تعلى وتتعمر يا دار»، أقيمت حلقات الدبكة الشعبية الشبيهة بتلك التي كانت ترافق حفلات «الشحرورة».
أسدل الستار واختتمت المسرحية الطويلة بمشهد مثير جعل الموت للمرة الأولى حدثاً يحمل شيئاً من الجمال. وكما كانت بطلته تختزل تاريخ الأغنية العربية بصوتها، سيبقى تشييعها نقطة تسجل بماء الذهب، لكونها تصدّت لكل الأعراف والتقاليد والأديان وهدمت بضربة واحدة كل «تابوهاتها».




حضر الابن وغابت الابنة

منذ اللحظة الأولى لوصول جثمان الشحرورة إلى «كاتدرائية مار جرجس»، سأل الحضور عن هويدا إبنة الراحلة. لكن لاحقاً، تم التأكيد بأنّها لن تحضر الجنازة لأسباب مجهولة، علماً أنّها تقيم في الولايات المتحدة. وطرح غياب الإبنة الوحيدة للصبوحة علامات استفهام كثيرة. وسط ذلك، لفتت مصادر لـ «الأخبار» إلى أن هويدا لم تتمكّن من حضور الدفن لكنها ستحضر القدّاس الذي يقام في مناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل والدتها. بدوره، كان لافتاً تأثر صباح إبن الشحرورة بوفاة والدته، وركّزت الأنظار عليه خلال مراسم التشييع. كما حضر الفنان فادي لبنان الجنازة، وهو آخر أزواج الصبوحة.