بعيداً من تعريفات الشعر المدرسية أو القيود التي تفرضها الذائقة الدكتاتورية للنقاد، بقي الشعر الفن الوحيد العصي على التعريف. بوسعنا قلب العبارة الصائبة لمحمود درويش حين قال إنّ الشعر يعرّف ذاته، بالقول إنّ بوسع القارئ تمييز ما هو ليس شعراً. في المشهد الثقافي العربي، ما زلنا في المربّع الأول الذي يحصرنا بالوزن والقافية، مع «غضّ طرف» عن شعر التفعيلة، و«تسامح» مع أسماء بعينها في قصيدة النثر.
وبعيداً من الشكل، كانت القصيدة العربيّة في معظمها، بما فيها قصيدة النثر، حالة دفاعيّة؛ بمعنى أنّها تفسّر أو تصف أو تمدح أو تهجو، من دون أن تكون، إلا نادراً، صاحبة المبادرة في فرض عالمها الخاص. اكتفى الشعر العربيّ بكونه «حمّال أوجه» من دون أن يكون، كما الفن عموماً، كالفلسفة: أي حمّال أسئلة.
اختار جوزيف عيساوي الطريق الأشد وعورة في الكتابة والإعلام. اعتبر الكلمة، والقصيدة بالنتيجة، سؤالاً أبدياً لا تخبو أصداؤه إلا كي تعود بصيغة أخرى موغلة على نحو أكبر في التأمل. ليس التأمل الصوفي أو الروحاني هو ما تسعى إليه مجموعته الجديدة «ميت سكران يطلب المزيد» (دار الإبداع)، بل التأمّل بمعناه الطفوليّ؛ الحارق، اللذيذ، الخلّاق، والخارج بالضرورة عن جميع تأطيرات «البالغين» الدينية والجنسية بالأخص. لم يقلّل عيساوي من شأن ذاكرته القديمة تلك، بل جعل القصيدة فسحة أخرى للعبث كي يكتب عن الجسد والإنسان والآلهة والحيوانات والأشياء بعين الطفل البارعة،
عوالم تضجّ بالأجنّة
المجهضة وتعاظم الأسى


ومخيّلته «السوبر-واقعية»: حيث يكون لجميع عناصر الحياة شكلها البشريّ الظاهريّ كما لوحات الأطفال، حين نجد الشمس ذات ضفائر وابتسامة، والبيت أشبه بوجه بشريّ بعينين/نافذتين وباب/فم يتّسع للكلام. الفارق هنا أنّ الشاعر طوّر مادة الطفولة الخام وجعلها قصيدة؛ غيّر تركيبة العالم «الواقعيّ» المحيط به ولكن بعدما رسم له جناحين من خيال. في «ميت سكران يطلب المزيد» بأقسامها الأربعة، وعالمها القائم على مزاوجة عالمين متناقضين، سيكون للمفردات دلالاتها الجديدة. الحليب يتخلّى عن معناه الأمومي المباشر ليصبح نافذة لغواية الشك؛ هو السائل ذاته لكن في مخيّلة مختلفة لجسد وعقل جديدين بالضرورة، يلتقطان التفاصيل القديمة ذاتها، ولكن لطرح أسئلة أكثر إحراجاً. دموع لوحة «الطفل الباكي» الشهيرة تصبح إشارات استفهام تُفضي إلى عوالم أقسى تضجّ بالأجنّة المجهضة وتضاعف أعداد البشرية المترافق مع تعاظم الأسى. «طفل الحائط» هذا شاهد على ملايين البيوت والقصص والهمسات؛ شاهد على جرائمنا الصغيرة والكبيرة، ابتداءً بقطع زهرة من دون أن تنتهي بقطع الرؤوس وقطف الأرواح. لا براءة لأحد إلا لطفولة الكائنات والأشياء و«بدائية» المشاعر، حين يتجاهل البشر «المتحضّرون» جميع من لا يشبههم، بينما «يقفز (الكلب) الغريب من أجلك» ليعود اللقاء إلى أصله الأول قبل التعقيدات حيث «يعطيك إحدى قائمتيه/ يعطيك كلتيهما لو استطاع/ لتكون مصافحة ورثناها/ من أسلاف بعيدين./ البشر لم يفعلوا سوى إضافة كلمات إليها». وهذه الكلمات ذاتها التي اعتبرتها الحضارات ثمرة تطوّرها هي ـ في الحقيقة ـ مقصلتها. ليس الكلام ما يصنع الأسئلة، بل الصمت: الصمت هو مختبر الأسئلة والشك؛ هو الذي يُحْيي ما يقتله الكلام. «سكتت الموسيقى/ فإذا الحانة مزبلة أصوات». ويموت الإنسان مرّتين في جنازته: موته الأول انتهى وبدأ قتله الفعليّ على يد معزّيه وثرثراتهم. كلّ ما يحتاجه الآن هو الصمت، وسؤال حنون من طفل/ شاعر يتأسّف على أنّ الميت بقي بلا فنجان في مهرجان القهوة والسجائر. لحظة الصمت المتكررة هي لحظة الصفاء عند الشرب؛ أصابع الشاعر تداعب أطراف الكأس فينطلق مارد مخيّلة الطفل حيث يكتشف أنّ ثلج الكأس الذي يزيد قسوة الكحول، هو ذاته الذي يلطّف رحلة الميت إلى عالم الأرواح.
في كل قصيدة سؤال جارح، وتأملات لا حصر لها. تتغيّر المشاهد المكانيّة التي تكون مزدحمة دوماً من دون أن تنسى القصيدة الإيماء إلى اثنين من بين الجميع: طفل/ شاعر، وسؤال تأمّليّ محيّر يُعيد للغة بهجة دلالاتها المتعددة. في البدء كانت تلك الأسئلة، وتلك المخيّلة الجامحة. وفي تلك المخيّلة تولد قصيدة عيساوي الذي يحاول إعادة ترتيب فوضى الدلالات القديمة ليخلق عالماً آخر متجدداً لا تقتله أصنام التأطير؛ في هذا العالم، لكلٍّ قصيدته، وأسطورة خلقه، ولاهوته، ومجونه، وصمته، وطفولته غير المنسيّة.