تونس | إذا كنت قد عرفت تونس عن كثب في «العهد البائد»، وتزورها للمرّة الأولى فعليّاً بعد 14 جانفي وما تلاه، سيلزمك وقت قبل أن تتأقلم مع المناخات الحاليّة في بلد الشابي والطاهر الحداد. كل شيء هنا سيفاجئك، بل سيصدمك، من التجمعات والهتافات المفاجئة (في حمأة الحملات الانتخابية الرئاسيّة بين الدورتين) على جادة بورقيبة، تفرك عينيك جيّداً وأنت تراقبها من نافذتك، بحماية الشرطة، إلى سلوك الناس في الشارع وتحوّلاتهم ونقاشاتهم وردود فعلهم…
من مقاربات المثقفة الشابة التي كبرت مع حبيبها في ميادين الثورة، إلى حيرة «البوليس» الذي لا يعرف تماماً لماذا يوقفك ومَن في التاكسي (عادة سيئة قديمة؟) فتنتهي بينكم بمناقشة حضارية فكرية حول عوليسة (أليسار، جدّتنا المشتركة، رحمة الله على أستاذ سعيد). «طبّق القانون حتى ندافع عنّك»، تنتهره أ. برفق وحزم، وهي تعود فتصعد إلى «الكرهبا» (السيّارة). كانت كلّفتها غالياً هذه الجملة في أمس غير بعيد! نعم، ستكتشف أن عليك أن تلتحق بهؤلاء، وتتخلّص أنت الآخر من عاداتك السيئة، من خوف وحذر كانا يستبدّان بك لاشعوريّاً كلما زرت البلد. لا داعي بعد الآن لأن تنظر حولك قبل أن تقول رأيك. الناس هنا فهمتها طوال السنوات الثلاث الماضية، لكن أنت… جاء دورك! لا تنقبض إذا جلس شاب لا تعرفه إلى طاولتكم، في حفلة افتتاح المهرجان التونسي الشهير، فلم يتوقف النقاش السياسي الحاد، بين صبية يساريّة وسيّدة بورقيبو - سبسيّة، حول الصراعات الدائرة في البلد وآفاق المستقبل. بل ويروح الزائر المجهول يدلي بدلوه أيضاً. حقاً تجربة الحريّة جسديّة وحسيّة. الادراك الذهني لا يكفي، وكل المتابعات عن بُعد مهما كانت دقيقة وعميقة لا تكفيك. الآن ها أنت تتنشق الحريّة في الشوارع، رغم الأزمات والمشاكل والمخاوف الكامنة. تتنشّقها في قاعة «المسرح البلدي» الأثيرة التي حضرت فيها عشرات العروض والأمسيات الافتتاحيّة، أيام بورقيبة، وأيّام بن علي. هنا انطلقت قبل أيّام الدورة الخامسة والعشرين من «أيّام قرطاج السينمائيّة» التي تديرها المنتجة درّة بوشوشة، في مناخات مدهشة تختصر التغيير العميق الذي شهده المجتمع التونسي.
يقارب عبد الرحمن سيساكو التكفيريين بعيداً عن الكليشيهات

ربع قرن من عمر أحد أهم مهرجانات السينما العربيّة، صنو «القاهرة» ونقيضه، قبل أن تقتحم الساحة مهرجانات ضخمة بامكاناتها على طريقة «دبي» أو حتّى «مراكش». المغامرة التي بدأها الطاهر شريعة ورفاقه، وواصلها بعده أولئك الرفاق، من المنصف بن عامر إلى حميّد (أحمد بهاء الدين) عطيّة (المهرجان وجّه للراحلين الثلاثة تحيّة مؤثرة)، موعد حقيقي مع مبدعين حقيقيين. كنا ننتظره من عام لآخر (تواتراً بين سينما ومسرح)… لكن ثقلاً لا يقال كان يطأ المناسبة. صورة الرئيس تعلو الستارة الحمراء، الخوف في عيون الموظفين، وقرارات الوزير الاعتباطيّة وكل الممالآت التي حولها، كل الاعتبارات الجانبيّة والحسابات الدنيئة والصمت عن الأساسي. قلة ذوق «رسميّة» كانت تتسرّب من مكان ما فتفسد الجهد العظيم، و«بوليسيّة» بزي مدني كنت تشمّ رائحتهم في كل مكان. فعلاً عبارة «العهد البائد» في مكانها، ولو اننا لا نعرف تماماً ماذا يحمله لنا المستقبل. أمسية افتتاح الدورة الحاليّة من الـ JCC كما يسمّيها المتآلفون مع المهرجان (اختصار للحروف الاولى من اسمه بالفرنسية)، أعلنت فعلاً بداية زمن آخر. كأننا بالحدث يحمل للجمهور والرأي العام الوطني وأهل المهنة والمثقفين والاعلاميين والضيوف رسالة واضحة، تجمع الابداع، الاختلاف، التعددية، الديمقراطيّة، العمق الافريقي، الانفتاح العالمي، الهم الوطني، والانتماء العربي. الانتماء العربي الذي نلمس هذه الأيّام مشاريع طمسه وتسخيفه، في خبيصة ما سمّي بـ «الربيع العربي»، وتحت تأثير خطاب الاستعمار الجديد، ومساعداته وجمعياته غير الحكوميّة، وتواطؤ النخب المستغربة. طمس الانتماء العربي باسم «البراغماتيّة»، وبحجّة رفض «الايديولوجيات الصنميّة»، والانفتاح على العصر والحياة (!) وماذا بعد؟… كلا ليس في تونس التي أفهمت برنار هنري ليفي ألا مكان لسمومه فيها. افتتاح «الأيّام» كان مع الأختين ريحان وفايا يونان، في الدويتو الشعري الغنائي الذي شاهده مئات الآلاف في العالم عبر اليوتيوب. «شآمُ، لفظُ الشآمِ اهتَزَّ في خَلَدي»… غنّت فايا وأعقبتها ريحان بالكلام الموجوع، في جولة على جراح الأوطان العربية الممزقة والمتروكة في مهب الريح. رافقهما على الكونترباص جورج هيرابيدايان. وصفقت الصالة بحرارة لدى انتهاء العرض.
خطاب المخرج التونسي كان أيضاً علامة فارقة، عند هذا المنعطف المدهش. بدأ بـ «معالي الجمهور الكريم»، قبل أن ينتقد وزارة الثقافة التونسي (مراد الصقلي، كان حاضراً في الصالة) على تقصيرها. «الثقافة إرادة سياسيّة» قال، قبل أن يدعو إلى التخلّص من «ثقافة المناسبات والمهرجانات». وذكّر أن مئة صالة سينما أقفلت في تونس منذ انطلاق «أيام قرطاج السينمائيّة» العام ١٩٦٦. وعبّر بمرارة عن التفريط بالـ «ساتبيك» (الشركة التونسيّة للتنمية السينمائية والانتاج)، وبيعها للقطاع الخاص. هذه الشركة العريقة التي تأسست في ١٩٥٨، عامين بعد استقلال تونس (٩٠ ٪ للدولة والباقي للقطاع الخاص)، هي وراء ازدهار السينما التونسيّة. وطالب الدولة بقانون يحمي الفنانين ويؤمن لهم التغطية الاجتماعيّة (الضمان الاجتماعي والصحي). وافتتحت درّة بوشوشة، بخطاب أنيق باللغة العربيّة (التفصيل مهم)، الدورة الخامسة والعشرين من «أيّام قرطاج»، معلنة: «السينما هي الأمل في زمن الاحتقان… وبلادنا حاملة هذا الأمل».
فيلم الافتتاح كان «تمبكتو - شجن الطيور» العمل الجديد، الراهن والاشكالي، للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو. يرسم سيساكو بشجاعة ونزاهة وشاعريّة في التصوير والسرد، أهل إحدى القرى في الجنوب المالي، في مواجهة أحكام «القاعدة في المغرب الاسلامي»، ويحاول الاقتراب من المقاتلين التكفيريين، وانسانيتهم الضائعة، بعيداً عن الكليشيهات الاختزالية التي تعجب الغرب (الانتاج فرنسي بشكل أساسي). ها نحن في مواجهة التحدي الوجودي المصيري الذي يواجهه العالم العربي - الاسلامي، على خلفيّة تمبكتو مدينة المخطوطات التي اختلطت فيها الثقافات والأعراق. وتتواصل هذه المواجهة مع الواقع حالياً من خلال أفلام غسان سلهب وهاني أبو أسعد وخالد الجرار ومحمد علي الأتاسي وإلياس سالم وجيلاني السعدي وأحمد عبد الله… فيما البلد فائر بالنقاشات والأسئلة، وقد اكتشف الديمقراطيّة والحياة المدنيّة التي لا عودة عنها، كما يؤكّد معظم الذين تلتقيهم من المثقفين وعامة الناس. يحيا الاستثناء التونسي في هذا الخريف العربي المديد.




أفلام وتظاهرات

تتواصل عروض «أيّام قرطاج السينمائيّة» وحتى السادس من ديسمبر، عروض المهرجان، ضمن برنامج غني وغزير ومنوّع، أبرز محاوره المسابقة الرسميّة للأفلام الروائية الطويلة والقصيرة، والمسابقة الرسميّة للأفلام الوثائقية، إضافة إلى السينما الوطنية، ولجنة تحكيم الاتحاد العام للشغل، ولجنة التحكيم الخاصة بالشباب. من الأفلام البارزة في هذه الدورة «بيدون ٢» لجيلاني السعدي (تونس)، «الوهراني» لإلياس سالم، «عمر» لهاني أبو أسعد (فلسطين المحتلة)، «الوادي» لغسان لسهب (لبنان)، «هم الكلاب» لهشام العسري (المغرب)، «ديكور» لأحمد عبد الله (مصر)، «لوبيا حمرا» لناريمان ماري (الجزائر)، «أرواد» لسامر نجاري ودومنيك شيلا (سوريا). بين الأفلام الوثائقية اللافتة أيضاً: «موج» لأحمد نور (مصر)، «أرق» لديالا قشمر (لبنان)، «متسللون» لخالد الجرار (فلسطين المحتلة)، «جدران ورجال» لدليلة إينادر (المغرب)، «بلدنا الرهيب» لمحد علي الأتاسي وزياد حمصي (سوريا)، «المطلوبون الـ 18» لعامر شوملي وبول كوان (فلسطين المحتلة).
يرأس لجنة التحكيم الدوليّة للمسابقة الرسميّة للأفلام الروائيّة الممثل الأميركي داني غلوفر، وتضم: المخرجة التونسيّة سلمى بكار، المغنية اللبنانية ريما خشيش، الممثلة المصريّة منّة شلبي، المخرج السينغالي موسى توري، مدير التصويرالسويسري ريناتو بيرتا، المخرج الجزائري ندير مكناش. أما لجنة تحكيم المسابقة الرسميّة للأفلام الوثائقية، فيرأسها الزميل بيار أبي صعب، وتضم: المخرجة اليمنيّة خديجة السلامي، المخرج السينغالي موسى وليام مباي، المنتج المغربي رضا بن جلون، المخرجة التونسيّة رجاء العماري.
ينبغي أن نشير أيضاً إلى التظاهرات الموازية التي تسهم في توسيع أفق المهرجان وتلبية حاجات جمهوره، مثل التحيّة إلى المخرجين: التونسي الناصر الخمير، السينغالي صامبا فيليكس نداي، السوري عمر أميرلاي، الفرنسي مريس بيالا، البريطاني ستيفان فريرز… وبانوراما السينمات الرومانية (الموجة الجديدة)، والتشيلية، والتونسيّة. وأخيراً، فإن عروض «الأيّام» لم تعد حكراً على العاصمة، بل امتدت إلى مختلف جهات الجمهوريّة: من جندوبة إلى القيروان.