لا يزال أحمد معلا يرسم جداريات حاشدة وتجريدات حروفية. الرسام الذي اقتحم المحترف السوري بشكل عاصف نهاية الثمانينيات وأول التسعينيات بمجموعة معارض تحت عنوان «تجارب»، ومزج بين اللوحة والأداء الغرافيكي والمسرحي في معارضه التالية وخصوصاً في معرض «تحية إلى سعد الله ونوس» (1998)، تمهّل لاحقاً في استثمار العوالم والمناخات والأطروحات التي يمكن أن تقدمها لوحته له.
تمهلٌ جعل الرسام يبدو كمن يجاري نفسه، ويستنطق المدى الممكن للمقترحات التي لا تكفّ عناصر لوحته عن توليدها ووضعها في تصرفه. ومعرضه البيروتي الثاني الذي تحتضنه «غاليري مارك هاشم» هو طبعة جديدة ومنقحة ومزيدة لعدد من ممارسات معلا وأسلوبياته المتأخرة التي رأيناها في معرضه السابق، وعدد من تجاربه الأسبق في دمشق ومدن عربية وأوروبية أخرى.
الشعر الذي حضر في لوحات حروفية تشتغل عكس الحروفية التقليدية والزخرفية في أعمال سابقة، يحضر بكثافة أكبر في المعرض الجديد، ويتدخل في تأليف لوحات كاملة لا نرى فيها سوى أبيات شعرية مكتوبة فوق بعضها بطبقات متعددة وغير منتظمة أو متوازية، كما في لوحات مثل: «ابن زيدون»، و«قصيدة حب»، و«حكم المتنبي».
يحافظ على الخلاصة البصرية
للحرف أو بيت الشعر
الكلمات تنطبع على الكلمات في متوالية غرافيكية يمكنها أن تمحو السياق الذي يتحرك فيه معنى الأبيات الشعرية وكلمتها. محوٌ غير كامل ينكّل باللغة مع الحفاظ على جماليات معينة للخط الذي كُتبت به، ومع إبقاء بقاياها مرئية ومقروءة إلى حد ما. هناك شغل ضد الحروفية التي تبدو كأنها وصلت إلى آفاق مسدودة بعدما ترهلت من كثرة الاستعمال والتكرار والرهان على القيمة الزخرفية والتزويقية للحرف العربي. يحافظ معلا على الخلاصة البصرية للحرف أو بيت الشعر، ويراهن في ذلك على الذاكرة الوجدانية والتاريخية للمتلقي أيضاً. ثمة لعبة ذكية وثمينة في مخاطبة العين العربية التي لا تستطيع قطع الصلة مع تراث الحرف والكلمة. ولكن الرسام يذهب أبعد من ذلك في لوحات أخرى يتلاشى فيها الحرف تحت طبقات متراكمة من الكتابة الغرافيكية، وتتحول نوعاً من التجريد المعاصر الذي يمتلك إبهاراً بصرياً أمام عين أجنبية أيضاً. نرى ذلك في لوحتين من شعر المتنبي، حيث يحتجب الشعر نهائياً تحت طبقات اللونين الأصفر والأزرق، وتصبح الحركة الزائغة والمدوّمة لهذين اللونين مقترحاً تجريدياً (قد) يذكرنا بدوامات مماثلة في أعمال جاكسون بولوك، بينما الخطوط المتناسلة منها تُحضر مذاقات من ميرو وبول كلي أيضاً. غاياتٌ مثل هذه ليست مستهدفة من قبل الرسام الذي يطوّر ممارسات شخصية تحدث داخل لوحته، ويفتح لها مسارب وفجوات كي ترسل المزيد من الانطباعات المتشابكة والمتشعّبة. كأن الغزارة المطموسة للحروف والكلمات هي المقابل التجريدي للغزارة التي نراها في التشخيصات الحاشدة للوحات أخرى في المعرض.
الجموع الغفيرة التي كانت تحضر في أعمال معلا المبكرة تكتفي بمجموعات أصغر، ويترافق ذلك مع تخفيف المناخ القِيَامي والميتافيزيقي لذلك الحضور. هناك اختزال وضبط يوحيان بحِرَفية عالية وإتقان أكبر للترميزات البصرية المدسوسة في اللوحة. أشعار أبي فراس الحمداني والمتنبي وأبي نواس والمعري ليست بعيدة من هذا الاختزال. هناك شيفرات واضحة تفتح المعرض على ما يجري في سوريا أيضاً. لا يفضّل معلا فكرة أن يكون الفن شهادة مباشرة، ولكن السياسية موجودة هنا. سياسة مختلطة مع ثقافة اجتماعية وحضارية تتعرض للخراب والدمار. ولعل وصف أبي فراس الحمداني الذي تبناه معلا عنواناً للمعرض، يطاول ما يحدث في بلده الذي يمكن أن يكون لسان حاله: «وقورٌ وأحداثُ الزمان تنوشني».