هنا، في لبنان البعيد جداً عن أميركا، وتحديداً في منطقة فقيرة من لبنان (أي أبعد منه عن أميركا)، يوجد سناك شعبي لبيع سندويشات الدجاج اسمه Lady Dagaga. في هذه التسمية نكتة، سمجة أو مهضومة، لا يَهُمّ، لكنها تؤكد بشكل قاطع على الشهرة الخارقة للنجمة الأميركية Lady Gaga، وتعني أن ما طمحت إليه الفتاة الشقية منذ ألبومها الأول The Fame، بَلَغته عبر فن البوب، المبني تاريخياً على الثقافة الشعبية، أما اليوم فعلى الاستهلاك. كي يتحقق الانتشار الواسع عالمياً، لا بد من التعويل على قاسم مشترك بين الشعوب.
من بين القواسم المشتركة الكثيرة، اختارت غاغا… الجنس. حسناً، ليس المقصود الجنس بشكله العاري، إذ لا يصلح لتأمين شهرة علنية، طالما أنّ هناك شيئاً اسمه «عيب»، بل الجنس المُسوَّق في قالب محترَم ومقبول اجتماعياً اسمه «الفنّ». إنّ بلوغ الشهرة من خلال الموسيقى فقط ممكنٌ، بالتالي إن توسيع هامش الجنس لتحقيق الانتشار يؤكّد أن ما تقدّمه غاغا لناحية الموسيقى عديم القيمة تقريباً. بمعنى آخر، هي مسألة عرض وطلب: كلما زاد عرض المفاتن، خفّ الطلب على الموسيقى. عملياً، إنها حاجة لملء الفراغ بما يكفل النتائج: الشهرة والثروة لغاغا، والربح لمنتجي أعمالها.
يمكن الحديث عن مسيرة ليدي غاغا (1986) بالتفصيل وتعداد ما لها وما عليها. لكن مناسبة المقالة اليوم هي الألبوم الثالث الذي أصدرته الفتاة العشرينية قبل شهرين. نعم، ألف تحية لها، لا لأنها حققت معجزة فنية، بل لأنها أقدمت على خطوة تبث الروح والأمل من جديد في سوق الأسطوانات الشعبية الجديدة وفي مجالٍ «صَطَّم» من شدّة الاجترار. إنَّ للإيحاءات الجنسية (العلنية) حدوداً معروفة، وغاغا بلغتها سريعاً ولم يعد أمامها ــ إن قرّرت الخروج من التكرار ــ سوى بدء مسيرة جديدة كممثلة إباحية حصراً، أو زيادة منسوب الفن في مشروعها.
وبما أن فنّها الذي عُرِفَت به لا قيمة له بشكل مجرَّد، فقد قرَّرَت التخلّي عنه وملء «الفراغَين» بتجربة ستُدخِلها التاريخ حتماً. إنها تجربة كلاسيكية في الشكل، صحيح، لكن أن تأتي منها، فذلك أمر غير كلاسيكي على الإطلاق، بل يُنظر إليه بعين مختلفة، تماماً كمثَل الابن الضال الذي حظي عند رجوعه بما لم يحظَ به يوماً شقيقه الصالح. في ختام ألبومها الجديد، تصرخ غاغا، بعد انتهاء الأغنية، صرخة ولادة جديدة تلت تجربة مغرية في وحل الاستهلاك والصرعات التي لا تتخطى ثمارها الضجة الإعلامية، المدوية لكن العابرة.
ليدي غاغا لديها الحد الأدنى من الصوت والحس الفنّي والأداء الحسن، وما يكفي من الذكاء. لكن صوتها وإحساسها كانا مدفونين في صناعةٍ لم تطلُب منها وضع كل طاقاتها في العمل.
يحوي الألبوم كلاسيكيات
جاز غنائية وتشارك فيه أوركسترا تنفِّذ توزيعاً ممتازاً



اليوم جاء الوقت لنتعرَّف ـ صدِّقوا أو لا تصدِّقوا ـ إلى صوت جميل ذي نبرة خاصة، مهذّب وحساس، وموهبة استغنى عنها منتجوها الرخيصون، طالما أنها ارتضت بالبديل الأسهل، أي الإغراء والخروج التافه والنافر عن المألوف. وبذلك، تكون قد خلت الساحة للسيئة الذكر، مايلي سايرس، التي تتحمّل مسؤولية أوسخ جريمة في التاريخ: تجميع الأطفال حول البراءة ثم اقتيادهم إلى مرتع الفساد بشكلٍ لاواعٍ. قبل الغرق كثيراً في مديح ليدي غاغا، يجب التحفّظ على إمكانية عودتها في المستقبل، إلى سابق عهدها وربما أسوأ. لكن هذا لا يمنع الاحتفاء بمشروعها الجديد اليوم ودائماً. إذاً أطلقت ليدي غاغا ألبوماً بعنوان Cheek to Cheek تعاونت فيه مع المغني الكبير طوني بينيت (1926!).
بدايةً، إن مشروعاً من هذا النوع ليس «حسنة لوجه الله» من المنتجين. أغلب الظن أنّه نتيجة تقاطع ظروف ومعطيات، دفعت راصدي السوق إلى اعتبار هذه الفترة مناسِبة لهذا النوع من الإنتاج.
الألبوم هو أيضاً نتيجة سياسة جَمْع العتيق طوني بينيت بالنجوم الجدد (تعاون مع الراحلة آيمي واينهاوس في أغنية صدرت بعد وفاتها)، ما يؤكد أن الجيلين بحاجة إلى بعضهما اليوم. أما أهمية هذا «الحدث»، فتكمن في قدرته على التقاط جمهور غاغا الكبير، وإسماعه بالصدفة ذبذباتٍ غريبة عن «أبحاثه» في الموسيقى. وهذا قد يؤدي به إلى صحوة بالاتجاه الصحيح، قد تشجّع بدورها إلى تكرار هذه التجارب عالمياً. يحوي ألبوم غاغا/ بينيت كلاسيكيات جاز غنائية، وتشارك فيه أوركسترا تنفِّذ توزيعاً ممتازاً، مع أنه تقليدي. لا مجال لتعداد أسماء الموسيقيين الكبار المشاركين في الألبوم ولا الأغنيات التي يقدّم معظمها الثنائي في حين ينفرد بينيت بواحدة وغاغا بأخرى. والمفاجئ ليس صوت «الختيار» وأداؤه (إلّا إذا أخذنا عمره في الاعتبار) بل الصبية ونبرة صوتها التي تصيب المرء بالإدمان عليها عند الطبقة العالية. فعلاً، بعض اللحظات في الألبوم تقشعرّ لها الأبدان، بل إنّ ألبوماً نصفه جيد يُعتَبَر أكثر من ناجح، في حين أن أكثر من نصف Cheek to Cheek أكثر من جيّد.
يبقى سؤال: أين اختفت تلك المحطة الشبابية اللبنانية التي كان مراهقوها يفلقوننا بـ”غاغا“؟ أين هم المزهوون بالفن الغربي الهابط (لا يتعاطون بالأغنية العربية الجديدة، لأنها هابطة!)؟ أين تلك النشرة «الفنية» من جديد غاغا وأخبارها (الطيبة هذه المرة)؟ معلوم… عندما حان وقت الجودة انقطع البث تلقائياً!