تونس | «وا محمّداه»، ذلك هو اللفظ الذي مثَّل شرارة لما سيأتي بعده. ذلك القادح لفتنة كادت أن تفتّ عضد الدولة الإسلامية الفتيّة حينها، جاء صيحة شقّت سكون «المسرح البلدي» في تونس العاصمة حيث عرضت مسرحية «السقيفة» (70 د) أول من أمس. أخرج حافظ خليفة العرض عن نص لبوكثير دومة، عائداً إلى هذه الحادثة التاريخية في قراءة فنية فريدة. قد لا يلاحظ الجمهور فرقاً بين ما يجري على خشبة المسرح وما يدور في أروقة السياسة في العالم العربي.
الحاكم العربي لا يُقيله إلا الموت، فيما يتصارع خلفاؤه على كرسيّه إن لم يتم الانقلاب عليه وهو حيّ. عقليّة الحكم مدى الحياة تقابلها عقلية الانقضاض على الحكم متى سنحت الفرصة في ذلك، فتجعل البلدان العربية «جملكيّات» (جمهوريات في الظاهر ومَلكيات في الواقع) يرزح «مواطنوها» تحت نيْر الظلم والغَلبة التي يجيدها رؤساء هذه الدول وملوكها. هكذا يقارب خليفة الواقع العربي في العرض الذي انطلق بتجمع «الصحابة» حول ضوء منبعث من كوّة سرعان ما يختفي، لتتشكل حلقات سلسلة درامية من الصراع حول السلطة آنذاك. صراع بين الأنصار والمهاجرين، أي بين من يرى الخلافة في سعد بن عبادة، وبين من يراها في أبي بكر الصديق، ولكلّ منهما شيعة تنصره وعترة تدعمه. سعد مدعوم من الحباب بن المنذر الذي لا يتوانى عن الاستغاثة بالأنصار كلما أحس بالكفة تميل لغير صالحهم، فيما يقف عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وراء أبي بكر الصديق، ويريانه ومن ورائهما قريش أحق بالخلافة وأجدر بها. وبين هذا وذاك، يبرز أبو سفيان، داهية قريش، مستحثاً علي بن أبي طالب لأن يدلي بدلوه ويرمي سهماً مع الرّامين، فهو الأقرب إلى النبي محمد، ابن عمه وزوج ابنته وأبو حفيديه، لكن عليّاً يتمنّع وينأى بنفسه عن أن يكون وقوداً لحرب إذا استعرت، قد لا يمكن إخمادها.
يستعيد العرض حادثة
«السقيفة» عام 632 هجري

يجادل عمر بن الخطاب بأن المهاجرين «هم أول من عبد الله في الأرض وآمن بالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم». ويضيف أبو بكر الصديق مخاطباً الأنصار: «منا الأمراء ومنكم الوزراء» ليرد الحباب بن المنذر مزمجراً «يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق». وبين هذا وذاك، ينتصب البشير بن سعد حكماً بين الجمعَيْن لينحاز إلى المهاجرين، فتميل الكفة لصالحهم، فيما يواصل أبو سفيان من دون كلل محاولاته لإقناع علي بدخول مضمار الخلافة، فينهره الأخير ويذكره بأيام كان فيها أبا سفيان سيفاً مسلولاً على المسلمين قائلاً: «يكفيك ما جرعتنا عذاباً ودماً، يا سيد قريش، يا زوج هند آكلة أكباد الرجال».
لكنّ أبا سفيان يبرز في آخر المسرحية ممسكاً بخيوط اللعبة، حيث توضع عشرة سيوف على الخشبة ويخرج عمر وأبو بكر وعلي وسعد والبشير والحباب بن منذر، ليمشي كل واحد منهم بضع خطوات قبل أن يسقط ميتاً ليبقى أبو سفيان وحده على الركح رافعاً يديه عالياً شامخاً بالنصر، عاكساً صورة الداهية الذي لا يبرز كثيراً في الصورة ولكنه آخر من يضحك، فكان كمن حكم بالأمس ليعود اليوم ويعاود الحكم من جديد.

المسرحية التي راوحت بين الفصحى واللهجة العامية التونسية، وقد يختلف المؤرخون في مدى تطابقها مع الوقائع التاريخية ونسبة تطابقها مع ما وقع فعلياً في سقيفة بني ساعدة، تعد ثورة فنية من حيث تشخيصها للصحابة. وهو ما اعتبره حافظ خليفة سابقة في المسرح قائلاً: «عرضنا للمرة الأولى في تاريخ المسرح العربي والعالمي شخوص الصحابة على الركح، وأعتقد أن هذا أصبح ممكناً بعد الفتاوى في مسلسل “عمر” وما نراه من تجسيد للأنبياء في المسلسلات الإيرانية التي اعتبرت ثورة فنية جديدة من دون المس بالمقدسات وهيبة هذه الشخصيات الجليلة». أما الأهمية الأكبر، فتمثّلت في استعادة حادثة «السقيفة» عام 632 هجري، وتقلباتها السياسية والإيديولوجية وإسقاطها على التقلّبات والأحداث السياسية العربية التي تلت «الربيع العربي».