واجه المشهد الثقافي الفلسطيني اختزالات عدة، في الشعر والرواية. وقع معظم النقّاد في فخ إدراج الكتابة الفلسطينية ضمن تصنيفات ثابتة. الشعر ابن لمحمود درويش بالضرورة، أما الرواية فلا تعدو كونها تجليات أخرى لجبرا إبراهيم جبرا، أو غسان كنفاني، أو إميل حبيبي. بالطبع، ليست هذه هي الصورة الحقيقية، فواقع الكتابة الفلسطينية أعقد بكثير، لا سيما عند فلسطينيي الداخل في أراضي عام 1948. بقيت هذه المنطقة بعيدة من النقد لأسباب عديدة، راوحت بين الكسل والوقوع في الصور النمطية والخشية من الوقوع في شبهة التطبيع. وهنا، كان للمواقع الإلكترونية والمسابقات العربية، فضل اكتشاف تلك الأسماء الجديدة.
كانت تجربة محترف نجوى بركات «كيف تكتب رواية» مفتوحة على الاحتمالات الإيجابية والسلبية في الوقت عينه، سبباً أساسياً في زيادة مراكمة التجارب الروائية الشبابية بقضها وقضيضها، وكانت كذلك إحدى أهم المؤسسات التي اهتمت بإبراز الأسماء الجديدة المهمة التي يمكن للمتابع الجاد إقصاؤها بشيء من الجهد عن دوامة الروايات المتشابهة. المثير أنّ هذا المحترف الذي نشهد دورته الثالثة هذا العام، قد أنتج الأسماء الأهم في الدورة الأولى، بينما بدت الدورة الثانية فقيرة في النتاج رغم التنوع الجغرافي الأكبر. وربما لم ينجُ من هذا التصنيف سوى رواية «بردقانة» للكاتب الفلسطيني إياد برغوثي (1980) التي صدرت أخيراً عن «دار الآداب».
بمعزل عن المحترف، تميزت «بردقانة» كرواية جديدة لم تعانِ المشكلات المعتادة للباكورة الروائية. لم يكن التفرّد في الشكل، فالرواية أقرب إلى السرد التقليدي، ويمكن التقاط بعض التشابه مع أسلوب غسان كنفاني. لكن التميّز كان في المضمون الذي تناول التاريخ الفلسطيني قُبيل نهاية الحرب العالمية الثانية. ما ميّز هذه الخطوة أنّ الرواية الأولى معظم الأحيان تكون سيرة ذاتية لكاتبها، لكن برغوثي اختار الطريق الأصعب، حين دخل إلى التاريخ من باب الرواية، وإلى تاريخ فلسطين بالذات قبل النكبة، حيث بدأ كلّ شيء فعلياً.
محاورة طويلة
عن معنى الوطن والعمالة والخيانة


تتناول الرواية قصة الكابتن فايز غندور، مدرّب كرة القدم في فريق أسامة بن زيد، وهو إحدى الفرق المحلية في عكا. حياته تسير بهدوء، في انتظار اقتراب موعد زفافه من خطيبته ثريّا، ومعشوقته الثانية كرة القدم، وكرته الخاصة بردقانة التي يعقد عليها أحلامه الأكبر. يتحقق حلمه عند اختياره ليكون مدرّب المنتخب الوطني الفلسطيني المُزمع إحياؤه، إلا أنّ صورة جثة والده المنشورة في إحدى الصحف، وقد عُلّقت عليها لافتة مكتوب عليها «عميل» ستحوّل مجرى حياته، ليبدأ المسير العكسي وصولاً إلى نهاية مفتوحة تبقى فيها حياة فايز متأرجحة بين الاحتمالات كما الكرة على خطوط التماس.
رغم بوتقتها التاريخية، والتوليفة المتقنة بين الشخصيات التاريخية الواقعية والمتخيّلة، إلا أن القضية الفعلية للرواية هي إعادة طرح الأسئلة القديمة ذاتها، في زمن جديد. سيجد القارئ محاورة طويلة بين فايز وأخيه عن معنى الوطن والعمالة والخيانة تلخّص معظم أهداف الكاتب الذي نجح في نقل تجربة بناء الفريق الوطني، كاختزال للوطن بأسره، من سنوات الأربعينيات إلى سنوات الانتفاضات العربية والفلسطينية. أبطال هذه الرواية ليسوا البشر، بل الأشياء المرسومة بعناية في خيوط السرد المحكم. الكرة «بردقانة»، وحذاء «الفقراوية»، والحقيبة الجلدية للصحافي، وطاولة الزهر في المقهى وفنجان القهوة الفارغ المفتوح على الغياب هم الأبطال الفعليون في هذه الرواية. جميع هذه الأشياء على اختلافها دلالات متنوّعة للزمن القادم، ولا تتألق إلا في لحظات اليأس، كآخر فرصة للنجاة. أما الأشخاص فعابرون، عدا شخصية الفلاح في الحافلة الذي يؤدّي دور الكورس في التراجيديا الإغريقية، حيث لا أهمية للمفارقة هنا، حين تنطق الشخصية غير المتعلمة بما كان وبما يجب أن يكون إذ «من بعد ما خربت الثورة، كل شي خرب»، و«لو هيك الكل بيفكّر عن جد، كان من زمان غلبنا باللعبة الكبيرة»، و«احنا مش شعب؟! ولّا بس وقت الثورة والطخ منصير شعب»، و«بالفقراوية ممكن تغلب الجيش الإنجليزي نفسه، مش بس الفريق».
تنتهي رواية «بردقانة» بخاتمة مفتوحة، حين يقف فايز على خطوط التماس «في عز اللعبة، في الحد الفاصل بين فوز محتمل وخسارة ممكنة!». تبدو شخصية فايز كأنها أكبر من مجرد كابتن/ قائد وطني. ثمة دلالات أكبر لهذه الشخصية الثابتة دوماً عند تقاطع الطرق. هو على وشك الزواج من دون أن يكون متزوجاً، على وشك أن يكون المدرب الوطني من دون أن يكون كذلك، على وشك الانتصار من دون أن يتحقق هذا. يهدينا إياد برغوثي هذه الرواية ليشير إلى أن الشخصيات لا تحرّك الأحداث ولا تغيّر التاريخ الذي سيتكرر بصرامة، بل الأهم هي الأشياء، حيث لا بد لكلّ منا أن يكون لديه «بردقانة» متفردة لانتصاره الخاص.