أطلقت دينا الوديدي (1987) أخيراً ألبومها الجديد «تدور وترجع». ليس صوت الوديدي الأجمل، لكنها بالتأكيد واحدةٌ من أجمل تجارب الأندرغراوند المصرية وأكثرها نضجاً. تدرك الوديدي تماماً كيف تلامس جمهورها في بلادٍ منهكة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. تراكم على تجارب «أندرغراوند» مهمة وذات قيمة فنية ومعنوية كدنيا مسعود، وفرقتي «اسكندريلا»، و«وسط البلد». تضاف إلى هذا تجارب «أندرغرواند» جديد تحاول شق طريقها كـ «عمدان نور»، و«حاجة تانية خالص»...
يأتي «تدور وترجع» بـ 11 أغنية تم العمل عليها خلال عام. كانت الوديدي قد قدمت بعضها منذ بداياتها عام 2011، كأغنية «حلم الجنوب»، «الحرام»، «الليل»، أو «تدور وترجع» (عنوان الألبوم)، وبعض الأغاني الجديدة مثل «السكون»، و«كتر الوجع»، و«في بلاد العجايب». تكفلت الوديدي بتلحين الألبوم في محاولةٍ لتقديم نفسها كفنانة متكاملة، ويمكن القول بأنّها نجحت في تأطير «موسيقى» خاصة بعض الشيء، وإن ظهر تأثرها ببعض تجارب «الأندرغراوند» في العالم العربي في بعض الأغنيات. وزعت الألبوم موسيقياً عازفة الكمان المصرية نانسي منير (وزعت 8 أغنيات)، وعازف الكونترباص الأميركي مايلز جاي الذي يعرفه الجمهور اللبناني جيداً كونه شارك مع معظم تجارب الجاز اللبنانية (شارك مثلاً في احتفال إطلاق ألبوم «كتيبة خمسة» الأوّل «أهلاً فيك بالمخيمات»). وشارك الفنان البرازيلي جيلبيرتو جيل بصوته في أغنية «يا ليل». تأتي هذه الأغنية واحدةً من أجمل أغاني الألبوم. ويمكن للسامع المتمرّس ملاحظة تشابه بين هذه الأغنية وأغاني الفنانة الفلسطينية ريم البنّا (خصوصاً أغنية «مرايا الروح»). هذا بالتأكيد لا يجعل الأغنية أقل جمالاً أو امتاعاً للسماع: فهي تمزج بسهولةٍ بين النمط الغنائي البرازيلي الهادئ الذي يميّز جيل وتمرير الكلمات العربية بسهولة جميلة.
فرقة «مزاهر» للفنون الشعبية وموسيقى «الزار» كان لها نصيبٌ جميل في هذا الألبوم حيث شاركت دينا الغناء في «دواير». ويبدو الصوت «الشعبي» بلكنته الموسيقية مبهراً من خلال استعمال «الدفوف» والكورس ذي النمط المستوحى من «الزار». تظهر الأغنية من طبقات متعددة. تستعمل الوديدي طبقاتٍ من الموسيقى والصوت (الواجهة/الخلفية) بالإضافة إلى بداية مختلفة عن نهاية الأغنية. وهذا دليل على حرفة الموسيقى والقدرة على استعمال «المزج» الجميل بين أنواعها.
في إطارٍ مختلف، تأتي «الحرام» التي نسمع صوت الغيتار الكهربائي عند بدايتها، كما لو أنه يخبرنا بأنّ هناك نمطاً مختلفاً هنا: الوديدي تدرك قوّة الأغنية، خصوصاً توقيتها، فالأغنية أتت إبإن حكم الإخوان المسلمين لمصر، حيث ازدهرت «الإسلاموية» والتكفير. جاءت الأغنية تعبيراً عن رفض ذهنية «التحريم».
أما «في بلاد العجايب» التي تنهل من التراث الأفريقي والأوغندي، فيبرز صوت الوديدي أقوى وأشد شجناً.
وتأتي «حزن الجنوب» تكملةً لتجارب الأغاني الأندرغراوند المصرية، فالأغنية تشبه أعمال «اسكندريلا»، ويلاحظ أنها تستقي روحها من التراث المصري. هنا يبدو أداء المغنية الشابة صاخباً ومسرحياً.
وتعيد «كتر الوجع» الجو الذي عرفه الوسط المصري مع الثنائي الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم. تبدأ الأغنية بالطريقة التقليدية كما لو أنَّها مؤداة على اسطوانة فينيل. الموسيقى مرحة رغم حزن الأغنية وهناك ذكاء في ملامسة الفكرة ولا يعاب عليها شيء سوى أنّها تقرر في لحظةٍ ما أن تدخل «نمطاً» حزيناً.
في أغنية «سكون»، تغيّر الوديدي نمطها وتكسره، فترفع صوتها عن عادتها في استعماله، حتى طبيعة الموسيقى تغيّرها، فترفع صوت الكونترباص، وتستعمل موسيقى أكثر «حركةً» عن معتادها في ألبومها. تبدو «غربية» في مساحةٍ بعيدة من مكان «راحة» الوديدي. لذلك قد تكون ـ لبعض السامعين ــ الأقل أهميةً أو تأثيراً.
أما عنوان الألبوم «تدوّر وترجع» فتمهد لها بموسيقى تبحث عن شيءٍ ما. حتى في أدائها، تبقى الأغنية معلَّقةً بين الكلمات الجميلة والموسيقى الهادئة ذات الجهد البسيط المقصود: هنا ترغب المصرية الشابة أن تضع صوتها وأداءها أمام السامع من دون «بهرجة» أو ألعابٍ موسيقية: اسمعني فقط.
وتأتي «يا بلاد» أغنيةً تراثية مصرية، مع استعمال المزمار والدف كخلفية موسيقية، والناي كواجهة فضلاً عن «لغة» غناء شعبية للغاية.
ولأن الأسطورة المحكية جزءٌ لا يتجزأ من روح الشعب، تطرق دينا التجربة من خلال أغنية «السيرة» المأخوذة من قصة «الخفاجي عامر» من السيرة الهلالية (أبو زيد الهلالي والزناتي سالم). يبدو جهد الغناء عالياً، لكن كان ربما يحتاج إلى مزيدٍ من «الطبخ»، حيث بدا كما لو أنه «عرس» في لحظةٍ ما، وهو أمرٌ قد يحسب «سلبياً» تجاه الفكرة بحد ذاتها.