ليس هناك امتحان أصعب من نقل رواية يعرفها معظم البشر إلى الشاشة العملاقة. امتحان سقط فيه كثيرون أمثال فيرناندو ميريليس في فيلمه «العمى» المقتبس عن رواية ساراماغو، أو ثنائية رون هاورد المقتبسة عن روايتي دان براون «شيفرة دافنشي» و«ملائكة وشياطين»... فكيف إذا كان الفيلم قد شاهده الجمهور بنسخة سابقة كشريط «البؤساء». يبدو أنّ البريطاني توم هوبر الحائز «أوسكار» عن فيلمه «خطاب الملك» نجح في الاختبار ولو من دون درجة امتياز.
يقودنا هوبر إلى التحفة الأدبية التي كتبها فيكتور هوغو عام 1862. رواية تاريخية وفلسفية واجتماعية تعكس المُثل الرومانطيقية المتعلقة بالطبيعة البشرية، لكن تحكي أيضاً غياب العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية وجحيم الفقراء في فرنسا القرن التاسع عشر والخير والشرّ والقانون. أراد هوبر الهرب من المقارنة بالنسخة الشهيرة من الفيلم التي حملت توقيع الدانمركي بيلي اوغست (1998) ونالت إعجاب النقاد. لجأ هوبر الى فيلم موسيقي، طعّمه برؤية خاصة صنعت عملاً جميلاً كان يمكن أن يخرج بشكل أفضل. يتحدث الشريط عن جان فالجان الذي يجد نفسه سجيناً لـ 19عاماً بعدما سرق رغيف خبز ليطعم ابن شقيقته. وكان تحت رحمة السجان جافيير الذي يتخذ على نفسه عهد مطاردة فالجان الذي غيّر هويته بعدما خرق اطلاق سراحه المشروط وبدأ حياة جديدة برفقة كوزيت ابنة المرأة المعدمة. من خلال الصراع بين الشخصيتين، يدخل المشاهد قعر المجتمع الفرنسي بعيد الثورة. مجتمع فقير على هامش البورجوازية الفرنسية، يتخذ ابناؤه الفقر خبزاً والبؤس أسلوب حياة ليكون الحلم بالتغيير مصيراً أبدياً بعد اصطدام تلك الأحلام بحاجز السلطة. أما كوزيت فتقع في حب أحد الثوار الطلبة في حركتهم الفاشلة لإسقاط حكم نابليون، فينتقلون من ارادة التغيير الى اليأس والموت المحتوم.
يقدم هوبر قصته متكئاً الى جانب آمن في مغامرته. ينطلق الفيلم من المسرحية البريطانية الموسيقية (1985) التي أنتجها كل من آلان موبليل وكلود ميشال شونبورغ، وهي النسخة التي نجحت في تقديم رائعة هوغو بأسلوب راق. من الناحيتين الموسيقية والفنية، لا يخلو فيلم هوبر من أي شائبة. طلب السينمائي البريطاني من الممثلين أداء الأغنيات مباشرة ولم يلجأ الى تسجيلها في الاستوديو كما جرت العادة في الأفلام الموسيقية. أما التصوير الرائع وحركة الكاميرات وإطار اللقطات، فكلها تؤهّله حكماً لجائزة «أوسكار»، حتى إنّ المشاهدين أخذوا بحركات تتبع الوجوه والشخصيات، وخصوصاً في تلك اللقطات التي تتحرك فيها الكاميرا من دون الانتقال الى كاميرا أخرى، ما يمثل تحدياً استعرض فيه هوبر عضلاته الإبداعية. لكن التصوير وحده لا يكفي للخروج بعمل جيد. العدسة تصقل القصة، تعطي نكهة مختلفة للشخصيات، لكنها لا تطغى في عمل مماثل. اشتغل هوغو على كل شخصية على حدة، رسم معالمها، صاغ عالمها وخلفياتها الاجتماعية الثقافية في رواية تمعن في تشريح العالم الطبقي السائد آنذاك، الذي أسهم تفتته في تفتت المنظومة السياسية الأوروبية بأسرها. لكنّ بناء الشخصيات في الفيلم كان كارثياً. لم ينجح في إظهار شخصية جان فالجان، التي تمثل محور العمل. بدا الدور الذي أداه هيو جاكمان ضعيفاً كأنّه ممثل ثانوي في عمل اختير لبطولته. بدا ضعيفاً يخلو من القسوة التي عرفناها في القصة وقد نجح بيلي اوغست في تظهيرها في نسخته السينمائية. أما راسل كرو، الذي عهد اليه دور جافيير، فكان أقرب الى الناس كأنه هو البطل لا فالجان. استعان كرو بمهاراته التمثيلية ليخرج من عورة الشخصية الناقصة وفق الشكل الذي قدمه هوبر. لم يدخل في عمق شخصية جافيير التي أدت الى التزامه الصارم بتطبيق القانون وايمانه المطلق بأنّه يفعل الصواب. أما آن هاثوي، التي جسّدت فانتين والدة كوزيت، فكانت مقنعة ولو لم ينجح هوبر في تبرير العلاقة القوية مع جان فالجان بعدما اختزل الكثير من الأحداث التي من شأنها دعم تلك العلاقة. فعل هوبر ذلك ربما خوفاً من الجنوح نحو الملل، وخصوصاً أنّ مدة الفيلم تزيد على ساعتين ونصف ساعة، أي أقل بساعة كاملة عن مدة فيلم سلفه أوغست. وتأتي شخصيتا مربيي كوزيت الثنائي هيلينا كارتر وساشا كوهين لتبدوا أقرب الى الكوميديا الهزلية التي تدفع المشاهد إلى التعاطف معهما، بدلاً من نبذهما، وهي من مغامرة انقسم النقاد حول جدواها. من سيئات الفيلم أيضاً جنوح هوبر نحو التركيز على الثورة رغم فشلها، وختم بكليشيهات الوطنية وبعزف نشيد الحرية، متناسياً الخيبة التي كانت أساس الرواية مع تخاذل الفرنسيين عن اللحاق بركب الثورة وتبرّر عنوانها أيضاً. في المحصلة، نحن أمام فيلم جيد جذب الملايين حول العالم رغم الثغر، لكن السؤال هو: هل في امكان هوبر تقديم فيلم يدخل الموسوعة السينمائية الخالدة لأفلام الأدب؟ نعم كان بامكانه كذلك، وخصوصاً أنّه بنى عالماً فرنسياً كاملاً بمشكلاته وبؤسه (جرى التصوير في مدينة غوردون في جنوب فرنسا مع بناء مدينة بالكامل)، وقدم صورة شاعرية ضرورية في كل فيلم مماثل، لكن سعيه إلى الاختصار وغلوه في تقديم الثورة فوّتا عليه الفرصة وأضاعا هدف الرواية الأصلية.



* «البؤساء»: «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «سينما سيتي» (01/899993)