محمد حسنين هيكل رجل اللغة الضاري، وفق ما قيل عن برتولد بريخت، وشخصية مراوغة عندما تحاول أن تقارب أبعادها ومكوناتها. رجل صعب المراس ومركّب، على رغم استسهال كثُر من المقربين إليه تلخيصه في مجموعة العناوين أو الصفات العامة ــــ أو الكليشيهات ــــ بخاصة هؤلاء الذين انبهروا بالاستماع إليه في الجلسات الخاصة، أو الذين تابعوا مساره الصحافي، أو أدمنوا قراءة مقالاته المطولة "بصراحة".
شخصية عصيّة على التلخيص، على رغم أنه مال دائماً إلى التنبيهات والتلميحات والإشارات العامة والإيحاءات في مقالاته وكتبه، لأنه شخصية استثنائية فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية وتداخل مع السياسة ودوائر صنع القرار، وكان مؤثراً في إطارها عند قمة النظام، رغم احتمائه الدائم بالوصف العلم: صحافي ــــ أو "جورنالجي" بحسب تعبيره الأثير. عاش ثورات وانقلابات وتحولات كبرى، وإنجازات وإخفاقات وصلت إلى حد الهزائم المروعة على نحو ما جرى في 5 يونيو 1967.
من هنا تبدو صعوبة تلخيصه شخصاً ومساراً وصحافياً. رجل مولع بالأضواء من كل جانب، وفي قلبها يبدو حاملا سمة الحكيم ذي الخبرات الممتدة والعميقة، وينطق بخطاب الحكماء في السياسة ومجرياتها، وفي شؤون الحكم والاستراتيجيات الكبرى.
صحافي لديه دأب شديد وولع بالحصول على المعلومات والأخبار والوثائق واقتنائها لاستخدامها في التوقيتات التى يراها، وسلاحا فى مواجهة خصومه. شخصية شرسة عندما يقرر خوض معارك ذات طبيعة ذاتية مع خصومه، الذين يختارهم بدقة لينال منهم إذا مسه ضر أو أذى، لا يرد على أي سياسي أو صحافي أو كاتب، ويتعامل مع غالبية نقاده ومشوهي صورته، وفق قانون "اقتلوهم بالصمت"، لأنه وجد أن الصمت يحملُ بلاغته الرامزة، ويجعلُ من بلاغه التشهير والتجريح هباء منثوراً، ورأى أن رده على بعضهم يضفي عليهم أهمية ومهابة وحضوراً.
أخذ مع غيره من توفيق الحكيم القدرة والمهارة والذكاء في كسر حواجز الصمت التي تفرض عليهم بين الحين والآخر من السلطة الحاكمة في حال الخصومة وفقدان الود معها، أو عندما تبدأ أصوات وكلمات ولغة جديدة تصعد إلى المشهد العام السياسي والأدبي، عندئذ يطرح الأسئلة والموضوعات الحرجة التى تفجر الصخب العام، وتدور معها الكاميرات والأضواء وردود الأفعال. رجلُ وكاتب صحافي ماهر عرف كيف يصادق الأضواء اللامعة ويروّضها ويجعلها دائماً قريبة منه.
عندما وصل إلى سن التسعين، طلبت صحيفة "أخبار الأدب" القاهرية أن أكتب عنه في ملف أعدّته ونشرته في هذه المناسبة، ووصفته بأنه المفتي السياسي للديار المصرية، وهذا النعت الذي اخترته بعض من أدواره عندما حوّلَ تجربته الصحافية العريضة في كواليس السياسة المصرية ومطابخها عند القمة، إلى تقديم تصوراته في إهاب الفتاوى السياسية، واستطاع أن يقنع مريديه، ونقاده وخصومه والسلطة، بأنه ما يقوله هو الرأي السياسي في المتغيرات والظواهر والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى تمر بها مصر، والبلدان العربية. شخصية مفتي الديار المصرية، حالة تاريخية وشرعية وسياسية، كان لها ثقلها قبل الدولة الحديثة وبعدها. هيكل المفتي السياسي الحداثي للديار المصرية حيث ساهم بتشخيصاته وتحليلاته السياسية وصياغاته في بلورة الظواهر والمشكلات، وتقديم "الماعاته" وفتاواه إلى الحاكم علنا، أو في بعض الأحيان ستراً، إذا طلب منه الاستماع إلى رأيه أو افتاءاته. نستطيع القول ان المفتي السياسي الحداثي هو تطور في الدور والأداء الاستعراضي اللامع الذي يتوجه إلى الحكم ومن هو على قمته، إلا أنه يقدمه من خلال الخطاب إلى الرأي العام. رجل الحرص على صورته ومهابته ومكانته التى أسس لها عبر مساره المهني والعام. المفتي الحداثي، لأنه صحافي أساساً، فغالبا ما يعتمد على العموميات التى يصوغها في لغة بليغة، لكنها محمولة على قدرتها على إثارة الدهشة والصدمة وجاذبية استقطاب اهتمام القارئ والمشاهد. قاموسه ومرجعيته اللغوية متعددا المنابع والروافد والقراءات والمحفوظات لغة، هما مرآته بل مراياه وصوره، لغة الصورة وبلاغتها، وكان يحشد لها أعلى مستويات التوتر والجمالية والصدمة فى عديد الأحيان.
فتاوى المرشد الحداثي كان يقدمها حاملة لغة بينية بين لغة رجل الدولة المنضبطة ولغة ومجازات بليغة ترتفع عن مستويات الصحافة اليومية، وكتابها.
لغة تبدو رشيقة وناصعة ولها جمالياتها وصياغاتها الخاصة، مزج بين لغة السينما والصور والأجواء، يمكننا أن نصفه بأنه حكاء ووصاف الأجواء الكواليسية، وقادر بفرادة على نقل ووصف الأمكنة ولقاءاته، بحيث ينقل للقارئ أو المشاهد الحالة السوسيو ــــ نفسية لمن يلقاهم في مقارّ الحكم وقصوره وطقوسهم، ولغتهم. لغة تناصات، رجل عاشق ومجذوب للتناصات البليغة والمجازية التي ينقلها عن كتب مشاهير رجال السياسة في الغرب أساساً، وسواهم في بلدان أخرى، أو في أقوال لهم معه. من ناحية أخرى استمد من تجاربهم وحكمة بعضهم نسق صياغته فى بعض كتاباته.
صحافي مهووس باللغة، ومطلع على التراث الشعري العربي وكلاسيكياته، ويحفظ منها آلاف الأبيات، ويوظفها في كتاباته وأحاديثه المرئية.
صحافي أخبار من طراز فريد، دائما سؤاله الأول لمن يلقاهم ما الأخبار؟ الأخبار هي اهتمامه الرئيسي، سواء أكانت أخباراً سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو شخصية عن شخصيات تتحرك في المشهد العام، أو تُحركَ داخله! يوظف الخبر ويحلله وفق رؤاه وتوجهاته وأهدافه! قادر على تبرير تناقضاته وأخطائه ومواقفه وتحليلاته. الخبر كان جزءاً يوميا في مساره المهني والسياسي، رجل ذو أذن حساسة يسمع ويلتقط الأفكار والأخبار الجديدة.
يصف علاقته بناصر على أنها علاقة حوار، ولكن يبدو أنها علاقة اقتناع بتجربته وبمشروعه السياسي والاجتماعي، ومن ثم كانت علاقة أداء رشيد لمصلحة ناصر، والدولة المصرية. جعل من الأهرام مركز قوة ونفوذ بقدر ما يقدمه من دعم للرئيس والدولة، وذلك من خلال تطوير الصحيفة وفق تطور الفنون الصحافية، وفي الإدارة، وفي تحديثها وحداثتها وانفتاحها على عالمها العربي والعالم، من خلال التطوير، وتحسين الأداء، وإنشاء مراكز البحوث وعلى رأسها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، عام 1968، في محاولة منه لتطوير ورفع أداء فهم الدولة للسياسات الخارجية العربية، والعالمية واستراتيجياتها المتصارعة في ظل الحرب الباردة، والأهم محاولة فهم وتحليل إسرائيل بعد هزيمة يونيو 1967 القاصمة، والانتقال من بعض الرؤى الغائمة والمضطربة والمخلطة بين الدين وصوره النمطية الشائعة حول اليهودي إلى درس الإيديولوجية الصهيونية. وعندما تعرف على بعض مراكز البحث الاستراتيجي فى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، أسّس مركز الدراسات الصهيونية الذي ساهم في تكوين تراكم معرفي وعلمي عن إسرائيل، من خلال بحث النظام السياسي، والمجتمع وظواهره، وسياساته الداخلية والخارجية، والترجمة عن اللغة العبرية مباشرة، وأنشأ وحدتين بحثيتين حول إسرائيل والترجمة عن العبرية، ووحدة عسكرية، ووحدة للعلاقات الدولية والنظام الدولي، ووحدة للنظم والسياسات العربية، ووحدة للبحوث الاجتماعية والقانونية، ووحدة للدراسات الاقتصادية ووحدة لدراسة النظام السياسي المصري ووحدة للدراسات التاريخية. تشكلت خلال العمل بهذا المركز ــــ لا سيما فى عهد الأستاذ السيد يسين ــــ نخبة متميزة من الخبراء والباحثين فى هذه التخصصات، أسسوا لتراكم بحثي وفق المعايير المعرفية والبحثية العالمية، ودرس بعضهم في فرنسا وأميركا والاتحاد السوفياتي السابق، وأصبح بعضهم معروفا على المستويين العربي والعالمي، وجزءاً من الحوارات العربية والدولية، وبعضهم بات من المفكرين اللامعين مصريا وعربياً.
صحافي ماهر عرف كيف
يصادق الأضواء اللامعة ويروّضها ويجعلها دائماً قريبة منه

لا شك أن تجربة مركز الدراسات حققت نتائج مهمة بعد مغادرته الأهرام حيث أصبح واحداً من أهم ثلاثين مركز بحث على المستوى العالمي، وواحداً من أهم اثنين من مراكز البحث أحدهما مركز يافا ثم بعد ذلك مركز تل أبيب... الخ. من هنا نستطيع أن نلمح بوضوح أنه رجل تحديث فى تاريخ الصحافة المصرية والعربية، واستطاع أن يفتح الباب واسعاً أمام أبرز الأقلام العربية وبعضها عمل معه في الأهرام، واستطاع أن يثري رؤية الحكم ويطورها في ظل نخبة جاء بعضها من أصلاب المرحلة شبه الليبرالية والمجتمع شبه المفتوح، ومن ثم امتلكت من الرأسمال الخبراتي الكثير، من الموهبة والتكوين المعرفي الرفيع ــــ في تخصصاتها المختلفة ــــ ولم تبخل به على الدولة، حيث أدّى المثقف والمفكر الحداثي دوراً محورياً وفاعلاً في بناء الدولة الحديثة، وتشكيل الحداثة والرؤى الإصلاحية منذ دولة محمد على وإسماعيل باشا وحركة البعثات.
من هنا كان سر ولع محمد حسنين هيكل بضرورات تكوين الصحافي، واهتمامه الشخصي بالمتابعة النهمة والدؤوبة لما يجري في مصر والمنطقة والعالم من تطورات، وكان دائم الاطلاع على الكتابات، والتحليلات السياسية والاستراتيجية والتقارير المختلفة، كى يؤصل كتاباته على المعلومات والأخبار، ومتابعة المتغيرات. من هنا كان الأكثر اطلاعاً على ما يجري فى النظام الدولي والإقليمي، من خلال الجديد من الدراسات، وفي حركته الحثيثة نحو مصادر الأخبار وصناع السياسة في عالمنا وإقليمنا. من هنا اكتسب من جديته وصرامته ومتابعاته المستمرة، مكانة متميزة فى الصحافة والسياسة في مصر والعالم العربي، وجعل من الأهرام فى عهده واحدة من الصحف العشر الأولى في عالمنا. من هنا لا نستطيع مقارنة هيكل بمجايليه من رؤساء تحرير الصحف المصريين، على الرغم من أن بعضهم كانوا صحافيين متميزين وكتابا جادين، ولا يمكن أيضاً أن يقارن بغيره من الأجيال اللاحقة الذين حول غالبهم الصحافة إلى نشرات سلطوية تلهج باسم "ساكن الجنان" عند قمة النظام التسلطي فى مصر، رغم أنه كان جزءاً من عملية تأسيس التسلطية السياسية في مصر بعد 23 يوليو 1952.
رجل استطاع أن يجمع أبرز الوجوه اللامعة من الكتاب في الأهرام من توفيق الحكيم وحسين فوزي ونجيب محفوظ ولويس عوض وبنت الشاطئ ويوسف إدريس ولطفي الخولي وأبو سيف يوسف، ومحمد سيد أحمد والسيد يسين، وجميل مطر، وغيرهم. والأهم أنه استطاع أن يحمي هؤلاء وفكرهم وكتاباتهم وإبداعاتهم من عسف جهاز الدولة الأمني والاستخباري ذي السطوة والعنف.
رجل وصحافي استثنائي نسيج وحده، حافظ دائماً على المسافات بينه وبين الحكام، وبينه وبين أقرانه والعاملين معه، لا يستطيع أحد أن يتجاوز هذه الحدود حتى من بين أقرانه ومريديه ومحبيه وأصدقائه. ظل لأسباب تعود إلى أصوله الاجتماعية البسيطة شغوفاً بالحياة المترفة، والحديث عنها وممارستها، والأماكن التي ترتادها النخب المترفة عالمياً، يذهب إلى حيث يرتادون في أماكن الاستمتاع بالموسيقى وأشهر الفرق والعازفين وقادة الأوركسترا، وفي الفنادق والمنتجعات الشهيرة.
رجل أنيق الملبس والمظهر والحديث ومولع بالاستثنائية والخصوصية في المهنة والكتابة والحياة. كان ظهوره العام مدروساً بعناية لكى يحقق الأثر الكبير منه، وكانت إطلالته بعد مغادرته الأهرام تعبيراً عن استثنائيته النادرة.
يمكنك أن تنتقد أفكاره، وتحليلاته، وكتاباته، لكنك لا تمتلك القدرة على عدم قراءته ومشاهدته وانتظار ما لدى المفتي السياسي الحداثي للديار المصرية، وهو يواكب عصوراً متغيرة ومشكلات كبرى وظواهر جديدة. صحافي عاش مجده وشاهد أثره، وظل حاضراً وساعياً وراء تجويد بعض أفكاره. شخصية مصرية وعربية نادرة آمن بالقومية العربية على النسق والدعاوى الناصرية، وظل وفيا لها ومدافعا عنها في مراحل تراجع الفكرة العربية لمصلحة نمط من الخصوصيات والقطريات المبسطة.
شخصية صلبة واجهت بعض المرض بقوة وصلابة وبسالة نادرة وانتصر عليها، وظل إلى النهاية يغالبه بضراوة. ذات مرة وصف مغادرة محمد سيد أحمد والرحلة إلى الأبدية نقلاً وصياغة لبعض ما ورد فى كتاب الخروج إلى النهار ـــــ كتاب الموتى لدى الفراعنة ــــ بأنه سفر طويل في الغروب، وها هو يسافر طويلا في الغروب.

* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام