ثلاثة أسماء تجتمع في مقطوعة Marea Negra لتثمر عملاً موسيقياً تصويرياً مثيراً للفضول: نص أنشودة ابراهيم قاشوش الشهيرة «يلا ارحل ارحل يا بشار» مقتبس موسيقياً على طريقة بشار (مارسيل) خليفة ومرفق بصور وائل نور الدين إخراجياً. ابراهيم قاشوش لم يحمل السلاح، فكان صوته سلاحه. أضحت «يلا ارحل ارحل يا بشار» من أبرز الشعارات التي رددها معارضو النظام في تظاهراتهم. وما تناقله الإعلام واليوتيوب عن قتله بأشنع الطرق عام 2011 كان بمثابة صدمة لبشار خليفة الذي شعر بالغضب، وفق ما يقول في دردشة مع «الأخبار»، فـ«كيف يُقتَل شخص يغني؟ هناك الكثير من العنف الذي لا نفهمه». كان الفنان اللبناني يعدّ أسطوانته الثانية ويسجّل في الاستديو، حين جاءت أنشودة قاشوش لتسكنه كما يقول. «كان ضرورياً أن أغنّيها على طريقتي. لم أشأ أن أعتبرها تكريماً، بل أردت تسجيلها وفق إحساسي فقط».

هدف الأنشودة ليس ما يهمّ الموسيقي اللبناني، بل العنف والانزعاج الذي شعر به لدى اطلاعه على الجريمة. «كل الناس متأثرون بالوضع في سوريا. وكلنا لدينا أصدقاء هناك. الوضع حساس جداً. هناك الكثير من الأمور التي لا نفهمها. ولكنْ هناك أيضاً أمور واضحة: أناس في الشارع يموتون. بعد مقتل قاشوش، جالت هذه الأغنية كثيراً. وأول مرة سمعتها شعرت بقوتها، فالناس كانوا يرددونها خلفه. هي مينيمالية وتعتمد على لحن واحد».
من جهته، يخبرنا وائل نور الدين أنّ خليفة طلب إليه إنجاز كليب للأغنية التي ألّفها وسجّلها. ليس هذا التعاون الأول بين خليفة ونور الدين. ومعرفة أحدهما بالآخر تعود الى زمن بعيد. وبفضل التقارب في التوجه الفني الذي اتخذاه، كلّ في مجاله، كان من البديهي أن يكون هناك تعاون مهني بينهما أيضاً. يؤكد خليفة: «أعرف وائل منذ زمن. وأردت استخدام عنفه في الموسيقى التي أؤلفها. وعلمت أنه من الأشخاص القلائل الذين سيفهمونها، من دون أن أضطر الى شرح وجهة نظري. فنحن نملك المقاربة الفنية ذاتها. كلانا يريد أن يخرج العنف الذي في داخله. هذه الأغنية ضد الإنسانية وضد نفسي حتى. هي موسيقى تزعج وتعذّب، لكن الأمر كان ضرورياً».
بمعزل عن الصداقة التي تربط بينه وبين خليفة، جُذب نور الدين الى المشروع لأنّ «صلب موضوع الأغنية هو الاعتراض على القمع والسلطوية». نصّها بذاته لا يتوجه الى الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان ابراهيم قاشوش يستهدفه في هتافاته. تصديه لكل أنواع التسلط والقمع والديني هو ما جذب اهتمام المخرج.
تبدأ الأغنية بصوت خليفة مردداً شعارات قاشوش، من دون ذكر اسم بشار الأسد، وبلا مرافقة موسيقية. الشعارات التظاهرية تتخذ غالباً لحناً واحداً تكرارياً. وقد حافظ خليفة على هذا النهج، فاستخدم عبارة لحنية بسيطة تتكرر طوال الأغنية. الفكرة الأساسية التي يؤديها البيانو مقتبسة من تأليف سابق لخليفة بعنوان Marée noire. (المد الأسود) استخدمها في هذه المقطوعة لأنه شعر بالحالة النفسية ذاتها التي كان يمرّ بها عندما كان يعمل على المقطوعة السابقة. «هذا الـ«موتيف» يرسم شخصية الفوضى وهو محمّل بالكثير من العنف والآلام. أردت أن أحافظ على المينيمالية نفسها والإيقاع الأساسي». ويتابع: «ليس هدفي أن تكون أغنية ثوروية أو بروباغندا».
من ناحية أخرى، يصرّ خليفة على أن الأغنية ولدت مع الكليب. «الصورة والموسيقى تتكاملان. وهو تكامل فوضوي. الناس يعيشون ظروفاً صعبة الآن. وهناك أمور لا نستطيع أن نفسرها. هناك من يحمل السلاح لأن ذلك سائد في الحي الذي يقطنه. كل شخص يملك قصته. ولا تتعلق الأمور كلها بالحرب. هناك كذب وعنف وفساد وخيانات». ويضيف: «الأغنية كانت منتهية موسيقياً، لكنها لم تكتمل إلا مع وائل. تركت له الحرية الكاملة. كنت أريد أن أرى تعبيره. تحاورنا، لكنه أخذ الكاميرا ووضع نظرته الخاصة».
إخراجياً، يتشكّل الكليب من صورة تناقضية: فتاة شبه عارية تصنع كوكتيل مولوتوف، في حين يقوم الجنود بإطلاق النار والقصف. عندما علم نور الدين أنّ الأغنية تكريم لقاشوش، قرر أن يلقي تحية في الكليب أيضاً الى هولغر ماينس، الطالب السينمائي الألماني الذي انضمّ الى جناح الجيش الأحمر في سبعينيات القرن المنصرم وتوفي في السجن بعد الإضراب عن الطعام، وهو الذي أنجز فيلم «كيف تصنع قنبلة مولوتوف». يتعجّب نور الدين أن يكون ظهور الفتاة العارية هو ما صدم البعض أكثر من كونها تصنع قنبلة. في نظره: «لا أحد يمكنه أن يعرف من هو الشخص الذي يصنع الأسلحة ولأي سبب. فلمَ لا تكون فتاة مثلاً جالسة في منزلها في ملابسها الداخلية؟» يتساءل، مشدداً على فكرة أن هذا النوع من الأسلحة لا يصنعه إلا الفقراء عادة. سبق لنور الدين أن عمل على خمسة أفلام متوسطة الطول، وهو يُعِدّ حالياً فيلماً طويلاً مقتبساً عن «الممسوسون» لدوستويفسكي وهو يندرج في موضوع الثورة نفسه، إذ يتناول قصة انقلاب على السلطة، كاشفاً أنّه يسند دوراً لخليفة في شريطه المقبل.