في «المجتمع المدني ــ دراسة نقدية» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، يقدم عزمي بشارة مادة نظرية يتعقب نشأة مفهوم المجتمع المدني في الغرب، ويجري قراءة نقدية/ مقارنة لأهم النظريات الأوروبية المؤسسة له. قبل أن يرصد الباحث الفلسطيني أبرز الإشكاليات التي طرحها المفكرون الغربيون عن موضوع دراسته، يسعى في مقدمة الطبعة السادسة إلى موضعة إرهاصات المجتمع المدني في الحراك الاحتجاجي العربي، مستعيناً بمصطلح «الحيّز العام» الذي اجترحه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس للإشارة إلى دالين: عودة السياسي بقوة إلى الساحات العربية عبر الثورات، ومساهمة قوى سياسية واجتماعية في الإعداد «للحراك الثوري العربي». يتطرّق صاحب «العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل» إلى مفهوم المجتمع المدني والشروط التاريخية المؤدية إلى بروزه في أوروبا.
وإذ يؤكد أنّ مفهوم المجتمع المدني يحمل هوية المنظّرين له، على اعتبار أنّ الفهم الأيديولوجي الليبرالي يختلف عن الفهم الاشتراكي_ الديموقراطي، والديموقراطي _ الراديكالي وكذلك المقاربة الإسلامية، تبقى هناك أرضية شبه مشتركة قوامها الرد على سلطة الحزب الواحد والأنظمة الاستبدادية وسطوة اقتصاد السوق والديكتاتوريات والبنى القبلية/ التقليدية ما قبل الدولتية. يبيّن الكاتب في الجزء الأكبر من أطروحته كيفية تعامل التفسيرات الأوروبية المختلفة مع مفهوم المجتمع المدني، التي تؤسس ــ برأيه ــ لمواقف إيديولوجية وحقوقية متعددة بخصوص ثلاثية الفرد/ المجتمع/ الدولة. ثمة فرضية مهمة يعالجها تتعلّق بمكوِّنات المجتمع المدني نفسه. رغم أنها تبدو مستقلة عن الدولة، إلا أنّها تخضع في الواقع لثنائية الجذب والانفصال.
تحت عنوان فرعي «تقليد آخر في الحداثة الثانية»، يتطرق بشارة إلى الجيل الحداثوي الثاني من منظري المجتمع المدني، إذا جاز التعبير، وتحديداً إلى ألكسي دو توكفيل المنظّر «للحقوق الديموقراطية» في الحالة الأميركية الذي يعبّر عن أنموذج نظري يدعو إلى الفصل بين الدولة والمجتمع المدني على نقيض هيغل.
وبعدما شُغلت التيارات الأوروبية بفكرة انحلال المجتمع المدني حتى منتصف القرن العشرين، انتقل النقاش إلى المعسكر الاشتراكي الذي حاول إحياء المجتمع المدني مرتين: الأولى في سياق صراع الشيوعية الأوروبية مع النظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية؛ والثانية مع إحياء الفكرة في الثمانينيات كمحاولة للفكر الماركسي في «إيجاد موطئ قدم في هذه المناقشة». وهنا يتوقف بشارة عند النظريات التي وضعها غرامشي الذي سجل خمس مراحل تاريخية للعلاقة بين المجتمع المدني والدولة، وأقام تمييزاً بين الدولة التقدمية والرجعية انطلاقاً من مؤسسات المدنية. في المناقشات العربية، احتل مفهوم المجتمع المدني السجالات الفكرية الدائرة لمواجهة أزمة الأنظمة السلطوية العربية، على اعتبار أنّ المفهوم طُرح بديلاً للدولة التسلطية، وتقاطع أيضاً مع تنامي الاهتمام في الدول الصناعية المتطورة بسياسة صناديق التنمية في العالم الثالث إثر إخفاق سياسة المعونات في الستينيات والسبعينيات.
يبرز بشارة أهم الخلاصات التي خرج بها المثقفون العرب ممن درسوا المجتمع المدني، منهم برهان غليون، وعلي الكنز، ومحمد عابد الجابري ونزيه الأيوبي. ويأخذ على الجابري أنّه رغم توجهه الحداثوي، إلّا أنّ مقاربته جاءت تبسيطية. ينقد الكاتب الأدبيات الاستشراقية التي اعتبرت أن بنى الحكم التقليدية المؤسسة لاستبداد الشرقي، أتت من أحشاء النظرية الإسلامية التي ترفض الخروج على الحاكم، ولو كان مستبداً، فمارست دوراً نكوصياً، ما منع تطور المجتمع المدني في العالم العربي.
وانطلاقاً من تفكيك الأنظمة الشمولية العربية وأسبابها التاريخية، يعرج بشارة على آراء حسن حنفي والطاهر لبيب، مشيراً إلى أنّ رائد الحركة الإصلاحية العربية عبد الرحمن الكواكبي كان سبّاقاً في الكشف عن داء الاستبداد السياسي عندنا في أطروحته الشهيرة «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
يتميز «المجتمع المدني» بثقله النظري بسبب كثافة المعالجات والمقارنات. راجع الكاتب ودرس وقدم قراءة تحيليلة/ نقدية لتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر السياسي الغربي والعربي أيضاً. تأتي أهمية الطبعة السادسة من الفوران الاحتجاجي الذي تشهده دول الربيع العربي؛ إذ يدرجه الكاتب تحت مسمى «عملية إعادة تشكل» يصنعها «جموع المواطنين» الواعين لحقوقهم ولمشاركتهم السياسية الفاعلة في الحيز العام المنبعث من الجوامع والساحات.