القدس المحتلة | «باب الشمس» رواية الكاتب الياس خوري الملحمية التي نقلها المخرج المصري يسري نصر الله إلى الشاشة قبل سنوات، صارت عنوان أشهر عملية مقاومة فلسطينية ضد سياسة الاستيطان الاسرائيلية. صارت المغارة الشهيرة في الرواية، بأبعادها الرمزية المختلفة، عنواناً لانبعاث الذاكرة الفلسطينية في وجه التهويد، وعنواناً للتماس بالأرض والحقوق الوطنية والقومية. وكان لا بد من رحلة إلى «القرية» الافتراضية التي تجسدت واقعاً، لبرهة قصيرة، قبل أن ينقض عليها جنود الاحتلال بهمجيته المعهودة، تمهيداً لبناء مستوطنات جديدة تمعن في تمزيق «ما تبقى لنا» من أرض فلسطين التاريخية.
في الطريق من رام الله إلى «باب الشمس» (شرقي القدس)، أربعة حواجز عسكرية شغلها البحث عن أي مستلزمات ذات علاقة بنصب خيمة، ومنع الوصول إلى القرية الوليدة بهوس متأخر هذه المرة. ولأنّ أبا فراس يعرف طريقه واعتادها قبل وجود الاحتلال، اتكأ على عكازه ومشى بين جبال يعرفها لأكثر من ساعة ونصف ساعة حتى وصل. استقر أمام أول خيمة ونظر إلى الجزء القريب من مستوطنة معاليه أدوميم وأخرج وثيقة ملكيّة تآكلت أطرافها، وقال: «هاي أرضي، وجيت من الطور مشي». في الليلة السابقة، حمل شبان من كل فلسطين مستلزمات بناء لبنة أولى: خيام، وفؤوس، ومياه والقليل من البطانيات بسريّة تامة، واستقروا على رأس الجبل وأشعلوا ناراً تقيهم البرد، وأخرج أحدهم من ملابسه علماً ونصبه على السفوح الشرقية للقدس. وفي غفلة من الاحتلال، عَبَر قرابة 150 فلسطينياً «باب الشمس».
حامت قوات الاحتلال حول القرية ليلاً وتركت أمراً بالإخلاء تمهيداً للمداهمة والهدم. وهذا متوقع للأهالي (وهل هناك شبر فلسطيني غير مهدد بالهدم؟!)، فبدأ التفكير في حماية الأرض. بدأ أهل القرية نداءهم لكل فلسطيني يستطيع الوصول والإقامة هناك، وتقاطر الشبان إلى القرية رغم الطوق الأمني عبر الجبال المحيطة والأحراج، فلطالما كانت طريق الجبال وأحراجها أقصر وأجدى.
لم يكن الاحتلال المتأخر الوحيد حيال «باب الشمس». مسؤولو السلطة المفلسة ـ بالمعنى السياسي للكلمة والمالي إلا من ميزانيات مهولة تؤهلها للوفاء بالتزاماتها الأمنية حيال الاحتلال ــ وتصريحاتهم التي حاولت الإشارة إلى وضعية المنطقة E1 (حيث «باب الشمس») والتنازع عليها على طاولة المفاوضات، سقطت بإعلان أهالي «باب الشمس» أنّ قرى أخرى سترى النور، «أم سعد» ربما (عنوان قصة غسان كنفاني) كما قال أحد النشطاء. كل أرض فلسطينية سيحيا فيها فلسطينيون لتصبح الحياة العادية فعل مقاومة. وللأمانة، لا يتضمّن قاموس أهالي «باب الشمس» مفردات من قبيل «مناطق «أ» و «ب» و«ج»، و«حل الدولتين» و«الجانب الإسرائيلي». قابل أهالي القرية كل تصريحات تضعهم ضمن برنامج سياسي يتنازل عن حق العودة ويعتقد بحلّ الدولتين بسخرية وازدراء، «فلماذا إذن يأتي ابن حيفا ليبني باب الشمس!» يقول النشطاء متهكمين.
في القرية وبينما كان الشبان يمتّنون الخيام ويجهدون في تأمين عيادة للقرية وتوفير الكهرباء والمستلزمات الأساسية التي تمكّنهم من البقاء؛ كان مسؤولو السلطة والفصائل يتسابقون لاحتكار المشهد إعلامياً. رفض أهالي «باب الشمس» التعاطي معهم، مؤكدين أنّ القرية تطبيق فعلي لحق الدفاع عن الأرض والعودة إليها، ورفض لنهج المفاوضات والاستجداء الذي تمارسه السلطة ولا يحقق شيئاً. ودلالة التسمية صارخة: «باب الشمس» هي عودة إلى الوطن ولجوء إليه بين جولات المواجهة المستمرة. وهذا ما حصل فعلاً حين اقتحم جيش الاحتلال القرية واعتقل النشطاء وأوقع عديد الإصابات بأمر مباشر من رئيس حكومة الاحتلال. حينها تُرك الشبان وحدهم خالين إلا من عزمهم على العودة مراراً وتكراراً والبناء في كل مكان.
جاءت «باب الشمس» لتمثّل تغيّراً في أساليب المقاومة الشعبية، التي ظلت وقفاً على فئات محددة، ولم تحقق حداً مقبولاً من شعبيتها، وبعد سنوات من محاولات عديدة لتفريغ المقاومة الشعبية من مضامينها، وتحويلها إلى احتجاج روتيني مكرور سلمي وسرقة إنجازاتها المحدودة لمصلحة تيار أو فصيل. وفي أحيان كثيرة، جرى ترويجها كنقيض للمقاومة المسلحة، وأغرقت في سيل من أموال المانحين لتأخذ في الكثير من الحالات منحى استعراضياً لا يحشد الفلسطينيين ولا يوجع عدوهم. بعد كل هذا، جاءت «باب الشمس» كمحاولة للخروج بالمقاومة الشعبية من هذه الارتهانات. ولأنّه حين يخلو الفلسطيني بأرضه، لا يحتاج إلى الكثير حتى يعمّرها، لم ينتظر أهالي «باب الشمس» معونة من أحد. بعد بناء الخيام الأولى فيها، أخرجت شابة مجموعة كتب من حقيبتها ووضعتها في صدر خيمة وأعلنتها مكتبة القرية.



هؤلاء هم أحفاد يونس

هذه هي فلسطين التي حلم بها يونس في رواية «باب الشمس». كان حلمه من كلمات، فتحولت إلى جروح تنزف بها الأرض، وصرتم أنتم يا أهالي «باب الشمس» كلمات تكتب الحلم بالحرية»، هذا ما كتبه إلياس خوري عبر صفحته على فايسبوك إلى أهالي قرية «باب الشمس». وفي حواره مع وكالة «فرانس برس»، قال: «الفلسطينيون الذين أقاموا «قرية» حملت اسم كتابي، على أراض ستصادرها إسرائيل هم أحفاد بطل روايتي يونس. راقبت الحدث في «باب الشمس» بصفتي قارئاً لعمل هؤلاء النساء والرجال، وتجدّد الحلم الفلسطيني معهم، وكيف تمكّن الشعب الذي يتعرض للنكبات منذ 64 عاماً أن يثبت حقه». تقع قرية «باب الشمس» في منطقة تسمى «الزانبة» حيث تعيش 15 عائلة بدوية فلسطينية، وتقطع الطريق على أهم مشروع استيطاني على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية المقبلة، وتفكيرها في شطر الضفة إلى نصفين.