يمكن تلخيص سيرة ناغيزا أوشيما (1932 ـــ 2013) الذي رحل أخيراً في مشهد واحد. في فيلمه «إمبراطورية الحواس» (1976) الذي أثار ضجة هائلة، يحاول البطل كيشيزو تمضية الوقت في الشارع منتظراً عشيقته سادا، إذا بعناصر من الجيش الإمبراطوري الياباني تظهر، فيسير عكس اتجاهها بلامبالاة. الاستعارة الرمزية هنا يمكن تفسيرها داخل الفيلم وخارجه. السير عكس التيار الرسمي هو ما فعله أوشيما طيلة حياته، منذ بدايته المبكرة كقيادي طلابي يساري في جامعة كيوتو، فناقد سينمائي ثم مخرج كاره للسينما اليابانية، يخرج لاحقاً عن الاستوديوات الرسمية في الستينيات ليؤسّس استوديو خاصاً به بعدما ضاق ذرعاً بالرقابة.
غادر أوشيما عالمنا عن ثمانين عاماً نتيجة التهاب رئوي بعدما سبقه مواطنه الثوري الآخر كوجي واكاماتسو قبل أشهر. خسارة للسينما اليابانية، وإن كان أوشيما توقف عن صناعة الأفلام في سنواته الأخيرة واكتفى بدور مقدم تلفزيوني قبل أن يدهمه المرض. «غودار الشرق» وأحد أهم وجوه «الموجة اليابانية الجديدة» التي كره وصفه بها، تأثّر بصاحب «موسيقانا» لكنّه كان أكثر إثارةً للجدل منه. النقد والقسوة والتمرد حاضرة دوماً في صورته السينمائية، تركة ورثها من تأثره بالفكر الشيوعي وقيادته للتظاهرات الطلابية في الجامعة. في يابان ما بعد الحرب العالمية الثانية، تظاهر الطلاب آنذاك ضد الإمبريالية والوجود الأميركي وضد المعاهدة الأمنية المشتركة. خيبته من اليسار الياباني، وخصوصاً الحزب الشيوعي بعد تخليه عن الحركة الطلابية، جعلت السينما وسيلته لإكمال طريقه السياسي ولو بنظرة غلّفها التشاؤم. هكذا جاء شريطه الروائي الرابع «ليل وضباب في اليابان» (1960) المستوحى من عنوان شريط آلان رينيه، ليوجه نقده لتلك الفترة المضطربة سياسياً. سحب الفيلم من العرض بعد ثلاثة أيام اثر اغتيال قيادي يساري، فكان اعتراض اوشيما على هذه الرقابة بتأسيس استوديو خاص به. واصل إنتاجه السينمائي الكثيف في الستينيات، متطرقاً إلى مختلف المواضيع الجدلية في المجتمع الياباني: عقوبة الإعدام في فيلمه المعقد «شنق» (1968)، وعالم الجريمة والسياسة والجنس في «يوميات لص شينجوكو» (1969)، ونقد المجتمع الياباني ما بعد الحرب والبورجوازية في «الحفل» (1971)... هذه الأعمال شكلت رداً من أوشيما على كراهيته للسينما اليابانية. كره أوزو وميزوغوتشي وكوروساوا... واعتبرهم ذوي أسلوب دون محتوى. اختار دوماً طريق الجدل، واهتم بالشخصيات الحقيرة والمجرمة واللصوص والمومسات والناس العاديين. لكنه لم ينل الشهرة الواسعة إلا بعمله «إمبراطورية الحواس». فجّر الشريط شهرته بمشاهده الجنسية الحقيقية وعنفه. في فيلمه المقتبس عن قصة واقعية الذي ما زال يخضع للرقابة في اليابان حتى الآن، نرى علاقة حب وشهوة جنسية بين الغيشا سادا وصاحب النزل كيشي على خلفية سياسية تصوّر اليابان عام 1936. وفي 1978، أخرج «إمبراطورية الشغف» الذي نال عنه جائزة أفضل مخرج في «مهرجان كان»، وأنهى أوشيما مسيرته السينمائية عام 1999 بفيلم ساموراي بعنوان «تابو» يناقش المثلية. رحل تاركاً العديد من الأعمال التي تحدّت المألوف، والعصيّة على التصنيف إلا في سياقها السياسي والاجتماعي. إرث يليق باسم ترك أثراً كبيراً في السينما اليابانية والعالمية بتمرّده وغضبه الدائم.