«لم يعد الفن مَرِحاً»، نتذكر عبارة الراحل فاتح المدرس كوصف مقلوب للمَرَح الذي ينبعث من أغلب أعمال هوغيت كالان (1931) في معرضها الاستعادي الضخم الذي افتتح أخيراً في «مركز بيروت للمعارض». هذه رسامة مرتاحة، نقول لأنفسنا ونحن نتجول بين الأعمال التي تبدو كأنها منجزة بقوة الشغف والهواية والخفّة. لا نتحدث عن غياب المعاناة أو عن ضآلة التعبيرات الشرسة والعنيفة التي نجدها في أغلب التجارب المعاصرة، بل نشير إلى الترجمات الممكنة للمزاج الفني الذي يتحول إلى ممارسة احترافية، ويظل محتفظاً ببهجة الهواية ولهوها معاً.
المساحات اللونية الواسعة والمسترخية هي القاسم المشترك بين الأعمال المعروضة العائدة إلى فترات ومراحل مختلفة من عمل الرسامة المقيمة حالياً في كاليفورنيا. الأعمال البيروتية المبكرة قليلة مقارنة بالأعمال المنجزة في الخارج. هناك، نضجت التجربة أكثر، وباتت أقرب إلى المؤثرات الخارجية التي تتأخر عادةً في الوصول إلى المحترف المحلي. هكذا، اكتسبت ممارسات كالان مذاقاً أجنبياً، وأصبح تحرّر لوحتها جزءاً من تحليقها خارج المكان الأول. الخفة حاضرة بطرق متعددة، لكنها مثقلة بأفكار وابتكارات لافتة.
نجد ذلك في مزاج تكعيبي يعود إلى فترة مبكرة كما في لوحة «زوج وزوجة»، ونجده في اسكتشاتها الخطية المرتجلة ورسومها القديمة المعروضة في فترينات زجاجية، ونراه في أكثر من بورتريه ذاتي لها، وخصوصاً في اللوحة الكبيرة التي يغرق فيها الوجه في خلفية زرقاء شاسعة. في كل ذلك، هناك مزاج تجريدي يتحكم في مبدأ اللوحة. يحدث ذلك حتى في الأعمال التي تحتوي وجوهاً وأشكالاً بشرية. قد يكون التجريد مترجماً في علاقة اللطخات والبؤر الكثيفة مع الخلاءات اللونية المجاورة، كما هي الحال في لوحة My Home، وقد يكون مصنوعاً من خطوط هشة ونحيلة تسعى إلى خلق تناظر بصري بين الخط والفراغ، أو توحي بحركة جسمانية كما في مجموعة من الأعمال التي تحمل عنوان Rossinante. ممارسات مثل هذه ستعثر أخيراً على تلك المينيمالية الشكلانية التي ستميز أعمالها الأخيرة، حيث سيصبح الرسم أشبه بحياكة السجاد أو إنجاز خرائط غامضة لكنوز سرية لن يُعثر عليها. هناك أعمال يتأخر المتلقي في التمييز بينها وبين السجاد العادي. سجادات معلقة عَرْضياً، وأخرى تتدلى شاقولياً كالستائر المنقوشة والمزخرفة. في الحالتين، نرى خطوطاً متعرجة ومموّجة تتداخل مع أشكال هندسية متناهية في الصغر. الحصيلة تشبه صورأً ملتقطة لتضاريس كواكب بعيدة وغير مأهولة، ولكن ذلك لا يحجب المزاج التشريحي الذي يقف وراء هذه الأعمال. بطريقة ما، تبدو الفنانة الثمانينية كأنها لا تزال تجد سعادةً ومَرَحاً في هذا الانكباب شبه العُصابي على إنجاز أعمال يستطيع المقتنون أن يعلقوها في صالوناتهم، أو يستخدموها كسجادات أرضية أو ستائر تكمل سينوغرافيا هذه الصالونات. بعض التأويلات النقدية (قد) تعيد هذه الأعمال المنمنمة إلى طبيعة مشرقية أو لبنانية إذا شئنا الدقة. تأويلاتٌ لا تخلو من وجاهة، وتفتح الباب أمام انطباعات نوستالجية يمكن أن تصنع عنواناً نوستالجياً يؤرخ لعودة الرسامة إلى هويتها المحلية. كأن المصائر المتأخرة للتجربة تلتقي مع زمن البدايات. لقاءٌ يوحي بأن الزمن اللبناني الأصعب لم يترك ندوباً على أعمالها التي تبدو مدينةً لخيارات شكلانية تتفادى التلوث بالواقع الحقيقي، أو لعل الآلام الناتجة عن هذا الواقع قد دُفنت ببراعة تحت الخطوط والنقوش التي تغطي سطوح اللوحات.

هوغيت كالان، معرض استعادي: حتى 27 شباط (فبراير) ــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال) ــ
للاستعلام: 01/962000



احتفال بحقبة

تنتمي هوغيت كالان إلى الجيل الأوسط في المحترف اللبناني، ويحضر اسمها إلى جوار إيفيت أشقر وهيلين الخال وجوليانا ساروفيم، إضافةً إلى صداقاتها وحواراتها مع كتّاب وشعراء تلك الحقبة الذهبية التي ازدهرت فيها بيروت كمختبر لحداثة الشعر والمسرح والرسم والصحافة. معرض هوغيت كالان هو احتفال بتلك الحقبة، واحتفال بتجربتها الممتدة لأكثر من نصف قرن من الرسم والنحت وتصميم الأزياء. ويحوي المعرض أعمالاً مبكرة من بداياتها البيروتية (1964 ـــ 1970)، وأخرى من إقامتها في باريس (1970 ـــ 1987)، وأعمالاً أحدث من إقامتها الحالية في كاليفورنيا منذ عام 1988 حتى الآن.