علاقة استثنائية تجمع أهل السودان ومطربيهم، وتلك الحالة لا توجد غالباً إلا في السودان. يعتبر السودانيون المطرب واحداً منهم ويعلمون تفاصيل حياته ويحزنون بعمق لفراق أي نجم. فقد شكّل خبر وفاة المطرب محمود عبد العزيز (1967 ـــ 17 ك2/ يناير 2013) صدمة لجمهوره بعد خمسة أيام من التعتيم على حالته الصحية، علماً أنّه يعاني من نزيف في الدماغ أدّى إلى تلف في المخّ وكان يرقد في مستشفى اردني بعيداً عن الخرطوم.

بدا خبر الوفاة مختلفاً، وقد وصل إلى عشاق الراحل قبل أن تنشره وكالة «الأنباء السودانية» التي تعمّدت التعتيم على موعد وصوله إلى مطار الخرطوم. كانت الوكالة نائمة حين بثت الخبر، في حين نزل عشّاق عبد العزيز إلى الشوارع وأغلقوا طريق المطار واقتحموا المدرج ومنعوا الطائرات من التحرّك بعدما وصلهم خبر مفاده أنّ قوات الأمن لا ترغب في إعلام الناس بالموعد الحقيقي لوصول جثمان الراحل.
اعتقدت الوكالة أن أولئك العشاق سيملوّن الانتظار وسيتركون المطار، في حين يستفرد الرئيس عمر البشير بالخبر وحده ويقيم له جنازة رسمية. لكن الناس لم ترفع راية مللها، وبقيت في انتظار فنانها «أيقونة الشباب» كما كان يُطلق عليه. دخل صوته كل بيت سوداني، وحطّم الأرقام القياسية في التوزيع وإصدار الألبومات الغنائية التي وصلت إلى أكثر من 27 ألبوماً قدم فيها نحو 170 أغنية من أغانيه الخاصة، في حين كان الباقي عبارة عن عملية إعادة توزيع لأعمال خاصة بكبار مطربي الأغنية السودانية.
لعل غزارة الانتاج عبر عمره الفني القصير، جعلت نقاداً كُثراً يطلقون عليه لقب «الحوت»، لأنه عندما كان يصدر ألبوماً، كان زملاؤه الفنانون يمتنعون عن إصدار أي عمل، لأن أعماله ستكون في المرتبة الاولى.
افتتح الراحل مشروع الغناء الفردي في بدايات تسعينيات القرن الماضي ليبحر بعدها في عالم الطرب السوداني بصوته العريض المتفرد، واصلاً حدود القاهرة واريتريا وجيبوتي. ومع كل عمل جديد كان يقدّمه، كانت شعبيته تتزايد. في العام 1994، كان على موعد مع أول ألبوم له حمل عنوان «خلي بالك» واحتوى على خمس أغنيات خاصة به بعدما كان يغني في حفلات جماعية عامة لا يمكن اعتبارها من ضمن رصيده الغنائي.
لم يكن «الحوت» مجرد مطرب يهوى الغناء ويتخذه مصدر رزقه، بل كان فوق ذلك متمتعاً بحسّ سياسي جعله يبتعد قدر المستطاع عن أن يكون في جعبة أي طرف سياسي. استمر «أيقونة الشباب» في إصراره على زيارة جنوب السودان بشكل مستمر، وإحياء الحفلات فيه.
كان يعرف أنّ سلطة الخرطوم لن تكون راضية عنه. كان الراحل يسير وفق بوصلة قلبه السوداني من شمال الوطن حتى جنوبه.