أتى رحيل جمال البنّا (1920_ 2013) في ذروة الحاجة الى لاهوت إسلامي إصلاحي، بعدما احتل السلفيّون ومدّعو الاعتدال في الإسلام السياسي المشهد في دول الحراك العربي. لم تكن مفاجئة طروحات الشقيق الأصغر لمؤسس «جماعة الإخوان المسلمين» حسن البنا حين دعا الإخوانيين في مصر إلى إجراء مراجعات نقدية إثر وصولهم الى السلطة، إذ كانت له صولات وجولات لإرساء إسلام تنويري قادر على مواكبة العصر. إسلامي/إصلاحي. ينطبق هذا المصطلح على صاحب «نحو فقه جديد» الذي أثار زوبعة من الردود بسبب كتاباته النقدية الجدلية حول إشكاليات إسلامية متداخلة، ما زالت تعتبر بمثابة «التابو» الديني وسط عالم عربي إسلامي عاجز عن إحداث قطيعة إبستمولوجية مع موروثه القروسطي منذ الاضطهاد الذي تعرض له المعتزلة.
البنّا الذي توفي فجر الأربعاء في أحد مستشفيات القاهرة، ربيب الجيل الأول للتيار الإصلاحي الإسلامي، أي ذاك الاتجاه الذي دشّن النهضة العربية الأولى. إلّا أنه مع اختلاف الزمان، كان أشد انحيازاً إلى الفقه الحداثوي، على القاعدة التي تقول لا تناقض بين الإسلام والحداثة، وما علينا سوى استنطاق القرآن بروح العصر، لأنّ النصّ المقدس يحمل هوية قارئه.
أبصر البنا النور في المحمودية (محافظة البحيرة _ مصر). بعدما أتم المرحلة الابتدائية، التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، لكن الخلاف بينه وبين أستاذه في اللغة الإنكليزية دفعه الى ترك الدراسة، فقرر المتابعة بوسائله الخاصة. «ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد» عنوان الكتاب الأول الذي أصدره البنا عام 1945 وتلاه «ديمقراطية جديدة» (1946) نقد فيه الحماسة التي رافقت نجاح الإخوان المسلمين آنذاك.
لم يكتف البنا بالإنتاج المعرفي الديني. كانت له مواقف سياسية نقدية لازمته حتى آخر يوم في حياته. حالما قامت «ثورة يوليو 1952» التي وصفها بـ«الانقلاب العسكري»، وضع كتابه «ترشيد النهضة» الذي أهداه الى محمد نجيب وزملائه. وخلص الى أن النظرة الشاملة للثورات تقتضي تجديداً جذرياً تشترك فيه الجماهير. إبان المرحلة الناصرية التي دخلت في صدام حاد مع الجماعات الإسلامية، اهتم البنا بالحركة النقابية وعرّب عدداً من الكتب الصادرة عن «منظمة العمل الدولية» في جنيف و«الجامعة العمالية» في مصر كما استعانت به «منظمة العمل العربية» كخبير استشاري.
شكلت حقبة السبعينيات انطلاقته الحقيقية، فوضع كتاب «روح الإسلام» (1972)، لكن الذي صنع شهرته كـ«إسلامي متنور» كان مؤلفه «نحو فقه جديد» (صدر جزؤه الثالث عام 1999). في ثلاثيته هذه، نادى بفقه حديث وبطرح أصول جديدة للشريعة يتصدرها العقل، ما أدى الى إثارة زوبعة بلغت حدود المطالبة بمصادرة الكتاب.
تخطّت مؤلفات جمال البنا 150 كتاباً، وتعرّض بعضها للمصادرة. في عام 2004، أوصى أحد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بسحب «مسؤولية فشل الدولة الإسلامية في العصر الحديث وبحوث أخرى»، رغم أنه نُشر قبل عشر سنوات. ما أثار الحفيظة ليس خلاصة الكاتب عن نموذج الدولة الإسلامية المأزوم، بل اجتهادان: الأول يتعلق بإباحة أن ترتدي المرأة المسلمة القبعة بدلاً من الحجاب في الغرب، والثاني إباحة زواج المتعة للمسلم المغترب لفترة، ولا فارق _ من وجهة نظر البنا _ بين زواج المتعة والزواج الشرعي التقليدي المتعارف عليه إلّا في كونه زواجاً محدّد المدة.
لم يتوقف البنّا عن تقديم الاجتهادات الجديدة. كعادته، أثار كتابه «الحجاب» (2007) زوبعة أخرى، وهنا تجده يقدم دراسة تاريخية شاملة للحجاب، ويعرض أثره على المرأة المسلمة وعلى المجتمعات الإسلامية. رأى أن حجاب المرأة كان الأداة الحاسمة لحجبها عن المجتمع، ولم يقتصر ذلك على المسلمين، بل كان لدى مختلف حضارات العالم، مثل الهند والصين والآشوريين واليونان والرومان وفارس والمسيحيين واليهود. لكن الأهم أنه نقد الفقه التقليدي الذي أتى به الفقهاء المتقدمون والمعاصرون، وخرج برأي فقهي مغاير، معتبراً أن الحجاب ليس أصلاً من أصول الدين، وليس في القرآن أو السنّة النبوية. وأكد أنّ النقاب لا وجود له في الإسلام و«لا يمكن القضاء عليه إلا إذا قضينا على الفقه التقليدي الذي يُعدُّ النقاب ثمرة له». ولعل الأهم في الاجتهادات التي أطلقها البنا قوله إنّ الزواج «عقد رضائي» لا يحتاج الى شهود أو مهر أو ولي «وما حصل في الزواج من هذه الأمور عملية تنظيمية لجأ إليها الفقهاء لاحقاً».
لجمال البنا آراء فقهية أخرى من بينها «أنّ المرأة أحق بالإمامة من الرجال إذا كانت أعلم بالقرآن»، وقد فصّل الكلام في هذه القضية الشائكة في كتابه «جواز إمامة المرأة الرجال» (2005) الذي أصدره إثر قيام أستاذة الدراسات الإسلامية في «جامعة فرجينيا كومنولث» الأميركية آمنة ودود بإمامة صلاة جمعة مختلطة في نيويورك.
وفي ظل سطوة الخطاب التكفيري الذي يستهدف بعض المفكرين العرب، ومع تنامي أحكام الردّة التي تطلق هنا وهناك، دخل البنّا على خط الصراع المحموم بين العقلانيين و«الشيوخ التكفيريين»، معتبراً أنّ «حدّ الردّة ليس من القرآن ولا من الرسول، بل جاء به الفقهاء. فالقرآن تكلم عن حرية الاعتقاد باعتبارها مطلقة، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر». لقد هجس البنا باكراً بالمعارك التي يخوضها اليوم إسلاميّو الربيع العربي ضد العلمانيين والليبراليين، خصوصاً في مصر وتونس قائلاً: «نحن على أبواب معركة كبيرة قد تكون آخر المعارك الكبرى في سبيل حرية الفكر الإسلامي ولا يُقاس بها ما حدث مع الدكتور طه حسين أو الشيخ علي عبد الرازق أو الدكتور نصر حامد أبو زيد، لأنّ المعركة هنا تدور حول تحرير الفكر من قيد تضمنه أحد القوانين».