القاهرة | ربما لأنّه كان الشقيق الأصغر للإمام حسن البنا، لم يستطع الإسلاميون أن يفعلوا ضده ما فعلوه مع فرج فودة ونصر حامد أبوزيد، فانتهجوا ضده وسيلة أخرى: التبرؤ والسخرية من أفكاره. رحل جمال البنا أمس عن 93 عاماً، أي أكثر من ضعف عمر شقيقه المؤسس الذي اغتيل في الـ 43 من عمره. في حياته القصيرة، أسس المرشد الأول جماعة أمسكت أخيراً بحكم مصر. أما الشقيق الأصغر، فألّف ما يزيد على 120 كتاباً، وكتب آلاف المقالات، لم تترك أمراً من أمور الدين والسياسة لم تتطرق إليه، لكنّه ظل دوماً «شقيق البنا» في عيون الإسلاميين والعلمانيين معاً.
لم يُقرأ بالقدر الكافي، وربما لهذا أثار في نهايات حياته قضايا وُصفت بالإعلامية، كالتساؤل عما إذا كان تدخين السجائر يُبطل صيام الصائم. في جميع الأحوال، كتب البنا كثيراً في مواضيع تمس جذور تفكير الإسلام السياسي، بل أصول العقيدة نفسها، لكن الضوء لم يصل إلى تلك الكتابات كما ينبغي.
من أهم تلك الكتابات «نحو فقه جديد» (1990) الذي أصدره في ثلاثة أجزاء عن «دار الفكر الإسلامي» التي أسسها لإصدار مؤلفاته، ثم أعاد إصدار الكتاب نفسه بعد عشر سنوات في طبعة أكثر إيجازاً (دار الشروق) بعنوان «قضية الفقه الجديد». في الأساس، الكتاب تتويج وتحديث لمجمل الأفكار التي أصدرها قبلاً، يتطرق إلى موضوعات تبدو دينية بحت للوهلة الأولى، فينتقل من «منطلقات ومفاهيم الخطاب القرآني» إلى ضبط السنّة النبوية، وقضايا حرية الاعتقاد وطبيعته، وصولاً إلى الأمور الإشكالية في الفقه كطبيعة الإيمان ومبدأ حرية الاعتقاد وقضايا المرأة، والرقيق.
لكن تلك القضايا الفقهية كانت سياسية بامتياز. كان منهج البنا في كتابه ذاك ـ وبشكل عام ـ يعمل على أكبر ضبط ممكن لمفهوم النص المقدّس واجب الاتباع، والتمييز بين السنة النبوية «العبادية» و«الحياتية»، ما يعني بلغة أخرى، استبعاد جبال التأويلات الفقهية المتراكمة عبر العصور، بالنظر في طبيعتها «الاجتماعية – السياسية/ التاريخية». لا يعني ذلك ــ حتى لو لم يصرّح به ــ إلا أن يقتصر استخدام الدين في الاجتماع على «المبادئ»، كالعدل، والمصلحة وغيرهما من «مقاصد الشريعة». أما غير ذلك ـ العبادات ـ فلا ينبغي أن يتجاوز الحياة الشخصيّة للأفراد.
ما سبق هو موقف علماني في المحصلة. لكن جمال البنا كان «مفكراً إسلامياً» كما وصف نفسه. من هنا كان اعتراض الإسلاميين الذين اعتبروه مفكراً «لا إسلامياً». هو «يجتهد» ضد «المشروع الإسلامي»، وبالتالي «ضد الإسلام». أما العلمانيون، فقد اعتبروه إسلامياً لأنّه يحارب منطلقات فقه الإسلام السياسي من داخل الإسلام نفسه، وهو موقف لا علماني لأنه ــ حتى في اجتهاداته ــ يبحث عن حلول عصرية، لكن إسلامية تبقى في إطار «الفقه الصحيح» كما يراه.
إذن، يمكن النظر إلى حياة البنا على أنّها برهان على أنّ الفقه الإسلامي لم ينقصه الاجتهاد كما يشاع، بل نقصته الرغبة أو الإرادة في الاستعانة بالاجتهادات التي قدّم البنا منها الكثير، لكن ما قدمه كان يصب في العمق ضد كل ما يرتكز عليه الإسلام السياسي المهيمن ذو الجوهر السلفي. لا يمكن ضرب مثلٍ أفضل من «جواز إمامة المرأة الرجال» عنوان أحد أواخر كتبه الذي رأى فيه أنه يجوز للمرأة أن تصلّي إماماً للرجال إن كانت «أكثر منهم علماً». لم يكن غريباً أن «يسخر منه»، السلفيون، فماذا يتبقى من السلفية لو تساوت النساء بالرجال؟