عبر الوسائط الفنية المتنوّعة من عروض بصريّة وتجهيزية، عمل وليد رعد (1967) على توثيق الحرب الأهليّة اللبنانية في مشاريعه السابقة، لكن اليوم، اتجه الفنان اللبناني المعاصر نحو «خدش» مستقبل الحياة الثقافية في بلاد البترول، معلناً إياها حياةً مسطحة في «الخدش على أشياء يمكنني أن أتخلى عنها» الذي يقيمه في «غاليري صفير ــ زملر».
عند دخولك المعرض، تستقبلك جدارية متحرّكة في القسم المواجه للمدخل يقدّمها الفنان كخلفية مسرحيّة لمحاضرة شفوية يلقيها بنفسه. قالب العرض بما فيه المحاضرة استخدمه رعد في مشاريع سابقة كــ «عنقي أرفع من شعرة» (2004)، لكن الجدارية هنا تبقى بعيدة عن المشاهد بسبب صغر تفاصيلها ونصوصها، ما يجعل موقعها المعزول عن المحاضرة الأضعف في المعرض. معظم اللوحات في «المتحف العربي للفن الحديث» في الدوحة تنقصها الانعكاسات، هذا ما اكتشفه رعد، فقرّر في قسم آخر من معرضه عرض صور فوتوغرافية كبيرة لانعكاسات. آملاً أن تهجر الانعكاسات صوره لتأخذ مكاناً لها في لوحات المتحف. كذلك، عرض رعد ستّ لوحات أزيلت قبل فترة من متحف إماراتي وكانت مصنّفة من أهم الأعمال التجريدية العربية في القرن العشرين.
الوقوف أمام مجسم بقياس واقعي لأبواب خشبية، يضعنا في إطار واقعي مخلخل وملتبس. بابان يقودان إلى ممرات وهمية، إن دخلتهما تصطدم بالواقع. يلجأ رعد هنا إلى خدعة بصرية، متعمّداً بناءها وفق منظور يوحي بعمق الممرات المسطحة بمستوى الأبواب. وفي وسط المساحة، شاشة كبيرة تُعرض عليها غرف فارغة، تتمازج وتذوب ببعضها. أما على الحائط، فقد طبع رعد بخط صغير نصاً كتبه: «بتصرف: خلال حفل افتتاح لمتحف جديد للفن الحديث/ أو المعاصر في إحدى المدن العربية، يحاول رجل دخول المتحف، لكنّه لا يقدر. ليس لأي سبب إلاّ لأنه مقتنعٌ بأنه سيصطدم بحائط. يقف أمام المدخل ويصرخ في الحضور محذّراً: توقفوا، لا تدخلوا. وفي ثوانٍ، يسحبه رجال الأمن، يضربونه بقوة، ويضعونه في مصح عقليّ. لتعنوِن الصحف صباح اليوم التالي: «رجل مختلّ عقلياً يعكّر الافتتاح مدّعياً أن الأرض مسطحة». وذلك سوف يحدث بين ٢٠١٤ و٢٠٢٤».
هل تلك المجسمات هي أبواب المتحف الذي يذكره رعد في روايته ويحذّرنا من الاصطدام به؟ طبعاً لن يصرخ أحد في المستقبل داعياً إلى عدم دخول المتحف. وربما لن يكون هناك متحف من الأساس، لكن تلك الرواية أصبحت بمثابة تاريخ يكتبه الفنان اليوم لزمن المستقبل. إذا كان التاريخ يكتب أحداث الماضي، فرعد اختار كتابة تاريخ المستقبل. لا يعود مهماً لو وقع الحدث فعلاً بين ٢٠١٤ و٢٠٢٤، لأنه منذ اليوم، قد أصبح حاصلاً، وسُجِّلت الكلمات في التاريخ. لماذا يحذّر رعد من تسطح الحياة الثقافية في العالم العربي ومن الاصطدام بأبواب متاحفها؟ على جزيرة السعديات في أبو ظبي، يُبنى متحف «غوغنهايم» و«اللوفر» و«متحف الشيخ زايد الوطني» من توقيع أشهر معماري العالم، إلى جانب المشاريع الفنية الجارية في دول الخليج، وكلّها علّقها رعد في قصاصات ورق على جداريته. هل يستشرف الفنان اختفاء الانعكاسات من الأعمال المعروضة داخل تلك الفضاءات، فلا تعود الأعمال الفنية قادرة على التواصل مع محيطها؟ هل يرى أبوابها مسطحة تمنع دخول الجمهور؟ هل يتحوّل الصوت الصارخ في رواية رعد «توقفوا، لا تدخلوا» إلى تحذير من لعنة يراها ساقطة لا محالة على العالم الفني العربي؟ هكذا صرخ يوماً يوحنا المعمدان في البرية متنبئاً بقدوم «المخلّص». وهكذا اختار رعد أن يكون الصوت الصارخ المتنبئ بتسطّح أبواب المتاحف! وليد رعد ليس نبياً، لكن إن صحت النبوءة، فهل يأتي جيل فنيّ جديد يهدم الهيكل ويعيد بناءه؟

«الخدش على أشياء يمكنني أن أتخلى عنها»: حتى 23 آذار (مارس) ــ «غاليري صفير ــ زملر» (الكرنتينا ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/566550



تجهيز «اللوفر»

عبر «أطلس غروب»، أعاد وليد رعد قراءة تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، وأعاد كتابتها من منظور السيارات المفخخة، وأشرطة الرهائن. حينها أراد مساءلة كتابة التاريخ لأحداث ماضية وامتداد تأثيرها على الحاضر وناسه. واليوم، قرر كتابة تاريخ الغد عبر «الخدش على أشياء يمكنني أن أتخلى عنها»، مخاطباً المستقبل في الحاضر. من جهة أخرى، يعرض رعد تجهيزاً نفّذ خصيصاً لـ «متحف اللوفر» في باريس كجزء جديد من مشروعه المستمر «الخدش على أشياء يمكنني أن أتخلى عنها ـــ تاريخ الفن في العالم العربي» الذي بدأ العمل عليه منذ ٢٠٠٧.