بعد خبرة ميدانية متينة، وأعمال مرجعية، عاد الباحثان صابرينا ميرفن (صاحبة «حزب الله، الوضع الراهن»، آكت سود) وفرانك ميرمييه (المدير السابق لـ«المعهد الفرنسي للشرق الأدنى» في بيروت والمشرف على كتاب «ذكريات عن الحروب في لبنان» الصادر عن «آكت سود») بكتاب يحمل عنوان «زعماء ومناصرون في لبنان» بمشاركة 19 باحثاً وباحثة. العمل الذي صدر بالفرنسية تحت عنوانLeaders et partisans au Liban أشرف عليه ميرمييه وميرفن، وصدر عن دار «كارتالا و«المعهد الفرنسي للشرق الأدنى». «لا غالب ولا مغلوب». هذه «الجملة السحرية (...) التي تلي كل موجة عنف ليست إلا طريقة متحفّظة لإخفاء الحداد الساخط على الأوهام التي تبدّدت لدى المغلوبين والانتصار السريع الزوال دوماً لدى الغالبين»، هذا ما يكتبه ميرمييه وميرفن في مقدمة كتابٍ مهمّ لقراءة السياسة اللبنانية المعاصرة.
جاء الكتاب ثمرة عملٍ جماعي يهدف إلى إجراء مقاربة أنثروبولوجية للزعامات في لبنان. يدرس الكتاب العلاقات بين زعماء لبنان ومناصريهم، هذا البلد الذي يبقى أسير تعدديته وغناه الطائفي.
بعد خبرة ميدانية متينة، وبعض الأعمال المرجعية، ينطلق ميرمييه وميرفن من خلاصة: «يبقى لبنان في منأى عن حركات الاحتجاج التي تهزّ العالم العربي ضدّ الأنظمة السياسيّة القائمة منذ عام 2010، في حين انطبع تاريخه المعاصر بحربٍ وغليان وأعمال عنف حفّزها اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي يظهر مرة أخرى كيف تنعكس الاضطرابات الإقليمية على لبنان». فضلاً عن ذلك، تسهم عناصر متعددة من الداخل اللبناني والخارج في توسيع الشرخ بين الطوائف والأحزاب اللبنانية، منها: العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، والمحكمة الدولية، والمعارضة التي بدأت في سوريا منذ آذار (مارس) 2011. يقول المؤلفان في المقدّمة إنّ النظام السياسي اللبناني المبني على الطائفية سيشكّل «مصدراً لعدم الاستقرار بدلاً منه أسلوباً توافقياً لإدارة المنافسات يضمن التوازن الطائفي ويمنع السيطرة المطلقة لطائفة معينة على الطوائف الأخرى». يفرض ذلك حتماً التساؤل عن مختلف الآليات التي ترعى تشكيل مجموعة معينة: «هل كانت المجموعة قائمة قبل ظهور الزعيم أم أنّ الزعيم هو الذي أسّس مجموعته السياسية؟».
يقود هذا السؤال الباحثين إلى التفريق بين الأحزاب السياسية المختلفة. مثلاً، بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله». هل سيبقى هذا التيار ناشطاً بعد ميشال عون؟ بينما يشير إلى تمكّن «حزب الله» من الصمود وتخطي عمليات اغتيال متعددة. ويُطرح السؤال نفسه في ما يخص عائلة الحريري مع سعد الحريري وتيار «المستقبل» بموازاة الإرث السياسي لوليد جنبلاط والتاريخ الأقدم للحزب التقدمي الذي يماثل تاريخ الطائفة الدرزية. بالنسبة إلى المؤلفين، وحدها الحرب سمحت بصعود مختلف الزعماء السياسيين اللبنانيين إلى السلطة (باستثناء وليد جنبلاط) من خلال التماهي بين الزعماء ومناطق نفوذهم الجغرافية التي يمتد عليها إقطاعهم مع حفظ الألقاب: عين التينة (نبيه بري)، قريطم (سعد الحريري)، المختارة (وليد جنبلاط)، معراب (سمير جعجع)، الضاحية (حسن نصر الله)، الرابية (ميشال عون). إضافة إلى الرمزية السياسية لهذه الثقافة الأبوية الذكورية، تُضاف لغة الشرف. يحتل الحقل العاطفي (الشرف والعار) حيّزاً بارزاً في المشادات الكلامية.
في بلدٍ تطبعه تعددية الهوية: روابط القربى، الإثنية، الطائفة، العشيرة، وهو قائم على «وطنية الطوائف» (ماكسيم رودنسون)، أو «العصبية» بحسب ميشال سورا (مصطلح اقتبسه عن ابن خلدون)، يؤدي النزوح إلى المدينة، حيث «تُحسَم اللعبة السياسية» الآن، إلى فقدان المعالم. ننتقل من «الوطنية الليبرالية» التي كانت سائدة قبل الحرب (الطائفية الأبوية الذكورية المحددة بدقة ضمن منطقتها الجغرافية التقليدية) إلى «وطنية إثنية استبدادية» في المدينة.
من خلال دراسة العلاقة التي تربط الزعيم السياسي والديني بمناصريه، يسعى الكتاب إلى إظهار التغيرات في الطائفية اللبنانية الحديثة. في هذه الدولة الممزقة بين الحنين إلى الريف والنموذج الذي فرضه الانتداب الفرنسي والبريطاني، لا نصلح لأن نصبح دولة أمة. بالتالي، ما زلنا بعيدين عن «التعايش» الذي نصّ عليه اتفاق الطائف. نحن في بلد مركّب من دويلات توائم، رغم مظهره الخارجي وتعدديّة الألوان التي ترمز إلى أحزابه المختلفة.