القذيفة الضالّة، أصابت الطبقة الثالثة في البناء المجاور. من النافذة المقابلة، بدت أحشاء ذلك المنزل مكشوفة على الملأ. مكتبة مائلة على جدار. مجلدات كتب تراثية، كانت مصفوفة بإتقان. وكنبة فارغة، وجهاز تلفزيون. كنت أتساءل هل كان بين تلك الكتب «مروج الذهب» للمسعودي، أم «تاريخ الأمم والملوك» للطبري، أم «البيان والتبيين» للجاحظ؟ ومن كان يجلس إلى الكنبة، قبل لحظات من الحادثة؟ وهل قرأ خبراً عاجلاً عن موته البطيء، أم أن القذيفة أوقفت البثّ مع شهقاته الأخيرة؟
■ ■ ■


عشرون شهراً. ثمانون أسبوعاً، ستمئة يوم. لكن كيف يمكننا إحصاء عدد القتلى والمفقودين ومعاقي الحرب، ومرضى الحرية المخطوفة، والمهجّرين، وآلاف الأميال من اللافتات والشعارات، والأعلام، والخرائط، واختلاف المعاجم في تفسير معنى البلاد، وأنواع القذائف، وأسماء الأسلحة، والتخوين، والإقصاء، والتشبيح، والتشبيح المضاد، والحواجز، والمجازر، والأحزاب الوهمية، واللصوص، والعشّاق، والمخطوفين، والفتاوى، وأصحاب الثأر؟ كتبتُ لصديق عراقي يعيش في أميركا، في توصيف أحوالنا: نعيش نسخة عراقية منقّحة، فأجابني مطَمئناً: هذه مجرد بروفة أوليّة، لما سيقع غداً. «هناك جريمة لا تحتمل» أردّد عبارة من ج. م. كويتزي أوردها في روايته «في انتظار البرابرة». البرابرة وحدهم من يضفي على المكان سطوةً أقوى.

■ ■ ■


تستدعي حالة المناخ الغائم، عناوين مستعارة من ت. س. اليوت مثل «الأرض اليباب»، أو «الرجال الجوف»، ومن كافكا «مستوطنة العقاب»، ومن قسطنطين كفافيس «البرابرة قادمون»، و«إيثاكا»، وإن شئت جدارية ضخمة بنسخة جديدة من «غيرنيكا» بيكاسو. لا قاموس جديداً لاستيعاب ما يحدث اليوم. لا معنى للنصر، أو الهزيمة، في بلاد تحوّلت تضاريسها إلى مقبرة جماعية.

■ ■ ■


كم يبدو نزار قباني وحيداً وأعزل اليوم. لا أحد ينصت إلى نصوصه في تمجيد دمشق وياسمينها. الياسمين ملطّخ بالأحمر. لا عشاق يتسكّعون على رصيف شارع نزار قباني. لا أحد يكتب «ترصيع بالذهب على سيف دمشقي». لا أحد ينشد «أنا الدّمشقي.. لو شرّحتم جسدي/ لسال منهُ عناقيدُ وتفاحُ». المعذرة أيها الشاعر، سوف تسيل من جسد الدمشقي رائحة بارود، وشظايا قنابل، وذكريات عن موتى.

■ ■ ■


تطاردني منذ الصباح، صورة رجل عجوز ملقى على قارعة طريق ترابي في إحدى قرى الشمال، وآثار دم على صدغه الأيسر، إلى جانب دراجة هوائية، وأسطوانة غاز. علينا أن نعيد الشريط إلى الوراء قليلاً كي نتخيّل المشهد كاملاً. الرجل، بعد مكابدات مضنية، حصل على أسطوانة غاز من مركز توزيع بعيد، ثم وضع الأسطوانة في الصندوق الخلفي للدراجة، وانطلق عائداً إلى بيته بمشاعر مضطربة، هي مزيج من نشوة الانتصار، والألم عمّا آلت إليه أحوال البلاد والعباد. بالطبع، لن يظهر القنّاص في الصورة. على الأرجح، فهو كان يراقب عبور الدراجة من سطح بناية مجاورة، أو من وراء شجرة محاذية للطريق، قبل أن يسدّد رصاصة واحدة من مسدسه نحو صدغ الرجل العجوز. ارتبكت حركة المقود قليلاً بحركة التفافية مفاجئة، فأطاحت طمأنينة الرجل، ووقع أرضاً، إلى جانب الدراجة وأسطوانة الغاز. سمح القنّاص للمصوّر بأن يلتقط المشهد كما هو، أو ربما التقط الصورة بنفسه، على سبيل الذكرى، لكننا، في حال، عدنا بعد دقائق إلى مكان الحادثة، سنجد، فقط، رجلاً ممدداً إلى جانب الطريق بكدمة سوداء على صدغه الأيسر.

■ ■ ■


حين اضطرّ النحّات عاصم الباشا إلى مغادرة محترفه في يبرود، إثر اشتداد القصف على المدينة، وزّع بعض منحوتاته على أصدقائه برسم الأمانة. أما بقية المنحوتات، فقد قام بدفنها تحت الأرض، على أمل أن تنجو من الهلاك. في حال اكتشف أحد ما، في يومٍ ما، مقبرة لمنحوتات معدنية، على هيئة بشر وطيور ومسوخ، فاعلموا أنها منحوتات عاصم الباشا.

■ ■ ■


ستبقى الرواية ناقصة، بغياب الرواة الذين غادروا المكان باكراً، إلى قبور مجهولة. البلاغة وحدها لن تعوّض التفاصيل الكاملة لفزع الضحايا بالدقة التي جرت فيها الوقائع. هناك لحظة خاطفة وعصيّة على الوصف. الراوي الذي نجا بالمصادفة، سيفتقد حدة التركيز، فما عاشه تحت القصف المباغت، أو في المعتقل، أو لحظة الفرار من الموت المحتّم، أو لحظة الاختطاف، أو الاغتصاب، لن يتكرر مرّة أخرى بالتفاصيل نفسها، أو ما يسمى «حلاوة الروح».




بائع الشاي عند خطّ التماس

كي تصل إلى المكان الذي تبتغيه، وسط الطرق المقفلة بالحواجز، بين حيٍّ وآخر، تحتاج إلى أكثر من دورة التفافية في السيارة. في هذه الأثناء، ما عليك إلا أن تعاينَ مشاهد الخراب: بناية على وشك السقوط. ستائر من دون شبابيك. فتحة في جدار أحدثتها قذيفة مدفعيّة. آثار جنزير دبابة فوق الإسفلت. هوائيّات بث معطّلة. أصص نباتات على شرفة مهجورة. شعارات مضادّة لقناة «الجزيرة» على حاويات القمامة. صيدلية مغلقة (تناوب24/24)، صالة أفراح بزجاج مكسور. بائع شاي على دراجة هوائية عند خط تماس. سائق التاكسي المغامر، سوف يروي حكايته أيضاً «بعد مناورات تمكّنتُ من زيارة بيتي في داريا. كان التيار الكهربائي مقطوعاً منذ أيام. أفرغت الثلاجة من محتوياتها الفاسدة، ثلاث تفاحات فقط، لم ينلها العطب. حملتها وخرجت: هذه واحدة من التفاحات الثلاث... تفضّل».