القاهرة | لم يكن فقدان البصر والأدب والفلسفة وتنوير العقل العربي وكتب «مع أبي العلاء في سجنه» و«تجديد ذكرى أبي العلاء» ما جمع بين الشاعر العباسي أبو العلاء المعري (973 ــ 1057) وطه حسين (1889 ــ 1973). بعد أربعين عاماً على رحيله، شهدت محافظة المنيا مسقط رأس «عميد الأدب العربي» اختفاء رأس تمثاله من الميدان المخصص له في شارع الكورنيش المجاور لمبنى ديوان عام المحافظة.

جاءت تلك الحادثة بعد أقل من أسبوع على قطع رأس تمثال المعري في معرة النعمان في محافظة إدلب السورية. ورغم استبعاد بعض مسؤولي المنيا قيام التيارات الإسلامية بسرقة رأس التمثال، أكد مختار الكسباني مستشار وزير الآثار أنّ السرقة «قامت بها الجماعات المتأسلمة» متوقّعاً المزيد من الهدم والسرقة للآثار المصرية ما استمر التيار الإسلامي في حكم مصر.
وسط الصمت الذي خيّم على المؤسسات الثقافية الرسمية تجاه الحادثة باستثناء بيان مستنكر لوزارة الثقافة، فرض تمثال صاحب «دعاء الكروان» نفسه على جدول أعمال الاجتماع الذي أقامه أمس المكتب التنفيذي لـ«اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق وحريات الفكر والإبداع». انتهى اللقاء بالدعوة إلى «مؤتمر» يناقش آليات اللجنة في التصدي لمختلف أشكال التعدي على حرية التعبير والفكر في مصر، ومناهضة القوانين التي يعدّها مجلس الشورى وتهدف إلى تكميم الأفواه وطمس العقول على حد قول عضو المكتب التنفيذي يحيى قلاش. أكد الأخير لـ«الأخبار» «إن لم يؤخذ الأمر بجدية، فقل على مصر السلام. لسرقة رأس تمثال طه حسين أكثر من دلالة رمزية، وجميعها مؤشر خطير. هي تشير إلى توغلنا في العودة إلى عصور الانحطاط، وهي دعوة عنيفة لإدخالنا إلى بيت الطاعة الظلامي، فضلاً عن تأكيدها على خطة اغتيال العقل المصري والعربي المستنير؛ فطه حسين هو رمز التنوير في الثقافة العربية الحديثة».
«حركة الدستور الثقافي» التي أعلنت قبل أيام عن تدشين «صالون الأربعاء الثقافي» في نقابة الصحافيين (تيمناً بالصالون الذي كان يقيمه طه حسين في منزله في الهرم)، اعتبرت الحادثة «جريمة همجية» نتيجة تفشي الجهل والفتاوى الدينية التي تهاجم الحضارة المصرية ورموزها من قبل رجال السلفية والسلفية الجهادية الذين تتحالف معهم سلطة الرئيس محمد مرسي وتترك لهم الساحة من دون مساءلة. ودعت الحركة إلى عدم الاكتفاء بالوقفات الاحتجاجية بل «على المثقف الآن القيام بدوره في دعم مسيرة التنوير والعقلانية في مجابهة أفكار الردة الحضارية والرجعية الدينية».
المنسق العام لـ«جبهة الدفاع عن حرية الإبداع» عبد الجليل الشرنوبي لم يستغرب سرقة رأس تمثال صاحب «الأيام». يقول «ما يحدث لا يعكس حالة تحضر ديني وازدهار إسلامي بقدر ما يفضح حالة التردي التي وصل إليها المجتمع وتصدير صورة رخيصة للدين جراء الجماعات التي تستغل الدين في الأغراض السياسية». من جهته، طالب المشرف على «ورشة الزيتون» الثقافية الشاعر شعبان يوسف من وزير الثقافة صابر عرب بتقديم بلاغ للنائب العام في ما سماه «واقعة اغتيال تمثال الدكتور طه حسين»، خصوصاً أنّ هذا العام يتزامن مع الذكرى الأربعين لرحيل «السيد العميد». لم تكن «واقعة المنيا» الأولى التي تطالب برأس «العميد». رغم مرور أربعين عاماً على رحيله، ما زالت المطاردات تلاحق صاحب «في الشعر الجاهلي». حين نُشر الأخير عام 1926، تقدم الشيخ خليل حسنين الطالب في «القسم العالي» في الأزهر ببلاغ ضد المؤلف يتّهمه فيه بالطعن الصريح في القرآن و«نسب الخرافة إلى الكتاب السماوي». ثم أرسل شيخ الأزهر وقتها محمد أبو الفضل الجيزاوي تقريراً إلى النائب العام اتّهم فيه الكتاب بـ «إثارة المتذبذبين مخلاً بالنظم العامة وداعياً الناس إلى الفوضى». وهي التهم التي برأها منه رئيس نيابة مصر محمد نور حينذاك. كما قامت وزارة إسماعيل صدقي باشا عام 1932 بفصل طه حسين من الجامعة عميداً لكلية الآداب، فاحتج على ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته. ولم يعد طه حسين إلى منصبه إلا عندما تقلد «حزب الوفد» الحكم عام 1936.
وخلال الصيف الماضي، تداول نشطاء على الفايسبوك مقاطع فيديو للسلفي الداعية أبو إسحاق الحويني يكفّر فيه صاحب «مستقبل الثقافة في مصر» (1938) بدعوى «أنّه ينكر القرآن، وينفي نبوءة رسول الإسلام». وفي نيسان (أبريل) 2011، قامت مجلة «التوحيد» التابعة للسلفية الوهابية في مصر بتكفير طه حسين واعتباره مرتداً (المجلد 29). وهي المجلة ذاتها التي كفّرت نجيب محفوظ... واليوم، تقف مصر في مواجهة رياح ظلامية تهدف إلى قطع الرؤوس واغتيال إرث التنوير ورموزه.