لا يُعَدّ برنامج «الاتجاه المعاكس» الذي يقدّمه فيصل القاسم على «الجزيرة» كل ثلاثاء (21:05 مساءً) وحده الأب الشرعي في ترسيخ فكرة استعمال الميكروفون والحذاء في الحوار بين طرفين متناقضين في الرأي. هناك سلالة كاملة تتنافس على الحلبة اليوم، ولم تعد السبابة وحدها تكفي في التهديد والوعيد.بات على الضيوف أن يتدرّبوا على بعض تمارين المصارعة الحرّة قبل الظهور على الشاشة لإطاحة الخصم بالضربة القاضية.

هكذا بات العنف اللفظي والجسدي جزءاً أساسياً في ذلك النوع من البرامج، ربما بقصد إقناع الرأي العام وتزييف الحقائق على هدي الحكمة الشعبية «خذوهم بالصوت». الأزمة السورية المديدة أوقدت نيراناً إضافية تحت القدور، لكننا غالباً ما نكتشف، في نهاية المطاف، أننا إزاء طبخة بحص لا أحد من الطرفين المتحاربين يقنعنا بصوابية ما يقول، فالاتهام المتبادل هو سيد الأدلة ولا حيثيات واضحة تكشف إلى أين وصلنا في النزال ولا أحد يغادر خندقه تبعاً للوقائع المستجدة على الأرض أو أقلّه فحص التضاريس التي يقف على حافتها هذا الطرف أو ذاك لقياس حجم الزلزال.
حنفية دماء مفتوحة خارج جدران الاستوديوات تسهم في تأجيج الاتهامات، وبازار سوري لبيع كافة أنواع البضائع من الكلام المستهلك بتواقيع مرتجلة.
أسماء مجهولة ترزح تحت وطأة أسماء أحزاب وهيئات وجمعيات طارئة جرى توضيبها على عجل، لزوم اقتسام الكعكة.
لن نجد أحداً من هؤلاء بدون لقب رنّان يزيّن أسفل الشاشة. يخيّل إلينا أن بعضهم بالكاد أقنع زوجته كي تنضمّ إلى التيار الذي أسسه للتو خلال انشغالها بوضع صينية البطاطا في الفرن، وقبل أن يرتدي المحارب الشجاع ربطة عنقه في طريقه لإدلاء تصريح تلفزيوني. تصريح سيقلب المعادلة رأساً على عقب.
عبارة الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي للراحل جمال عبد الناصر لحظة إعلان الوحدة السورية المصرية، لم تفقد صلاحيتها إلى اليوم «أسلّمك شعباً، ثلثاه زعماء والباقي أنبياء أعانك الله على قيادته».
نخب تقود شارعاً شعبياً على الشاشة فحسب، فيما الشارع يعيش في الظلام ليس بسبب انقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار فقط، بل لانهماكه بتدبير شؤون معيشته وخشيته من زعيم مدجّج بالمفخّخات والفتاوى المستوردة، أو من «نبيّ» يبلّغ دعوته عبر تويتر أو فايسبوك أو أحد البرامج الحوارية في الفضائيات وحتى برامج ما يطلبه المستمعون، إذ تلقى أغنية «أعطني خبزاً وأطلق يديا»، رواجاً شعبياً منقطع
النظير.
طواويس مزهوّة بريشها المستعار، تستعرض قدرتها على الصراخ والإقصاء وإطلاق الوعود، وما إن تنطفئ الأنوار في الاستوديو، حتى تسيل الزبدة الفاسدة إلى أقرب «بلوعة» مخصّصة لكناسة الكلام.