ينطلق الكاتب السوري هاشم صالح في «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ» (دار الساقي) من إشكالية أساسية: كيف يمكن تفسير التحولات الجارية في دول الربيع العربي على قاعدة فلسفة التاريخ الهيغلية؟ قبل أن يخوض في غمار المقاربة الفلسفية الشائكة والمفتوحة على مزيد من الاحتمالات المستقبلية، يموضع الحراك العربي في سياق الثورات الشعبية التي تشبه الثورة الإيرانية لسببين: التجييش المليوني، والخروج من المساجد. ومع أهمية المقاربة بين الثورتين المتباعدتين زمنياً، وتوافر بعض القواسم المشتركة، من بينها سيطرة الإسلاميين ورجال الدين على معاقل السلطة، فإنّ أهمية الفرضيات التي عالجها الكاتب تنهض على معطيين: الأول محاولة تفسير الظواهر السلبية الناتجة عن حركات الاحتجاج، وتحديد الشروط الأولية لأي ثورة حقيقية.
يرفض صالح ــ ربيب المفكر الراحل محمد أركون ومعرّب مؤلفاته ــ المقولات السائدة، أي تلك التي قارنت بين الثورة الفرنسية والثورات العربية الهادرة. يقول إنّ الأولى تفجّرت عن حركة فكرية تنويرية أسسها فلاسفة وأدباء كبار في أوروبا، والطروحات التي قدمها هؤلاء المفكرون الثوريون والنقديون تماثلت مع الثورة نفسها، فيما «ثوراتنا» طغى عليها البعد المطلبي القائم على ثلاثية: الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، ولم ترافقها أو تؤسس لها الأفكار التنويرية، علماً أن المحرّكات الشعبية في فرنسا لا تختلف كثيراً عن مولّدات الاحتجاج الشعبي في ديار العرب.
يحاجج صاحب «الانسداد التاريخي» بعض المثقفين العرب الذين رأوا أن الانتفاضات الراهنة هي حركات نكوصية بسبب النتائج التي آلت اليها، مشيراً إلى أنّ الظواهر السلبية التي نشهدها مسألة طبيعية إذا دُرست من منطلق فلسفة التاريخ التي طرحها الفيلسوف الألماني هيغل. وفي سبيل توضيح إشكاليته الأم، يستعين الكاتب بالمنظور الكانطي ويستخدم المصطلح الهيغلي «مكر التاريخ» أو «عقل التاريخ» ليخرج بالخلاصة الأولية التالية: المنظور التنويري يرفض أن يكون مسار التاريخ اعتباطياً. إنه متفائل بمستقبل البشرية ويعتقد بإمكان تحقيق التقدم وتحسين الوضع البشري، ويرى أنّ للتاريخ معنى ويمشي الى الأمام رغم كل التراجعات والمظاهر الخادعة التي قد توحي بالعكس... فكيف فسّر صالح الإفرازات السلبية والظلامية التي أعقبت الانتفاضات؟ بناءً على نظرية هيغل المتفائلة بالمستقبل، يرى صالح أنّ الصراع المذهبي والعنف الديني والسياسي وسطوة الإسلاميين والتفافهم على الجيل الشبابي وانتعاش السلفيين الذي تشهده دول الحراك العربي، مسألة طبيعية. إنّها بمثابة المولدات السلبية التي سينهار على أساسها العالم القديم، ويولد على أنقاضه العالم الجديد، ومن البديهي أن تطغى المظاهر القروسطية المشار اليها على الحقب الانتقالية.
يحاول صالح أن يُقنع نفسه ويتفاءل بمستقبل العرب، لكنه أحياناً كثيرة يفقد الأمل حين يتشابك مع مآلات الحراك العربي، ولسان حاله: من أين لنا تخطي كل هذه الانغلاقات القابعة على صدورنا منذ مئات السنين؟ وهل يملك العرب الإمكانات أو العدة الضرورية لإحداث انتقال ثوري رغم مفاعيله الدراماتيكية؟ يرى صاحب «الاستشراق بين دعاته ومعارضيه» أنّ الإصلاح الديني في الإسلام هو أم المعارك، ويعود بنا الى إرث المعتزلة، ويشدد على أولوية القراءات الحديثة للنص الديني، وأنه ليس المطلوب القطيعة المعرفية مع الموروث الفقهي والنصوصي، بل تفكيكه ونقده وإعادة البناء. لا يتجاسر صالح على المطالبة بالقطيعة النهائية مع فقه القرون الوسطى، كما حدث في المسيحية الغربية، ويطالب بالتأسيس لـ «لاهوت إسلامي إصلاحي» وتنويري قادر على تجاوز الانسدادات الدينية، وبمعنى أدق إحياء إسلام العقل الذي يملك إرهاصاته التاريخية في موروثنا المسكوت عنه والمقموع أيضاً بفعل حال الاهتياج السلفي والتكفيري التي حلّت كاللعنة على الإضاءات العقلانية التي أنتجها العقلانيون في الإسلام.
هذا الجمود التاريخي على حد تعبير المفكّر التونسي عبد الوهاب المؤدب ينعكس على الديني والمجتمعي والثقافي والسياسي، ويحتاج الى التفكيك والقراءة العلمية من أجل الخروج من الانغلاق الراهن والسير باتجاه المستقبل. وإذا كان الإصلاح الديني قد أسّس عمليات الإصلاح المطلوب والمنشود، فلا بد أيضاً من تكريس الفلسفة السياسية الحديثة مكان اللاهوت السياسي السائد، ما يتطلب إحلال المواطنة الكاملة وحفظ حقوق الأقليات وإقامة دولة القانون والمحاسبة والمساواة بين الجنسين، وبإيجاز شديد الانتصار للانسان العلماني/ العقلاني بدل الإنسان اللاهوتي/ الأسطوري كما خلص الكاتب.
يقترح صاحب «معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا» التأسيس لعلم الأصوليات المقارنة لفهم النهج الأصولي الذي عرفته الديانات التوحيدية: اليهودية والمسيحية والإسلام، وغايته من هذا الطرح ليس إجراء المقارنات والمقاربات في قراءة الايديولوجيات الأصولية فحسب، بل أخذ الدروس منها والاتعاظ بها. الفرع المعرفي الذي اقترحه صالح ويبدو أنه سيبقى أسير النخبة المثقفة، يحتاج الى ترجمة على أرض الواقع، فكيف يمكن تغيير الذهنيات العربية الأسطورية/ الأصولية عند الجماعات من المحيط الى الخليج؟ وأي أدوات أمام العرب لعبور الأصولية الدينية التي تتجاوز الخطاب الديني لتصل الى السياسي والمجتمعي؟ لا يجيب الكاتب عن هذين السؤالين الإشكاليين على نحو مباشر، ويكتفي بالكشف عن أفكاره عبر تعرية خلاصات الأصوليين المتشددين في الإسلام.
وفي رصده لمجمل الحراك العربي، وخصوصاً الأنموذجين المصري والتونسي، خلص صالح الى أنّ الصراع بين الإسلاميين (أو الحركات اللاهوتية القروسطية المتزمتة كما يسميها) والعلمانيين أو الليبراليين يشهد اليوم ذروته، وقد يمتد فترةً زمنية طويلة. لا يتوانى الكاتب عن إبراز أهمية أن يقتدي إسلاميو الثورات بالاسلام السياسي التركي، لكن الحركات الإسلامية، ومن ضمنها فرع الإخواني، ترفض هذا التماهي لأنها تخشى أن تخسر مشروعيتها القائمة في الأصل على استغلال الديني لمصلحة السياسي.
ثمة طروحات مهمة يعالجها صالح، وخصوصاً عندما يشدد على مركزية الإصلاح الديني في الإسلام. وقد أعطى هذه القضية حقها في بعض الجوانب، لكنه يقع أحياناً ضحية التكرار واللغة الإنشائية، فلم بقدم تفسيراً سوسيولوجياً للنزاعات المذهبية والتخلف المجتمعي والغليان السلفي_ الإخواني.
وبعيداً عن بعض نقاط الضعف في الكتاب، وهذا لا ينفي الجهد الذي بذله صالح في موضعة الانتفاضات ومآلاتها الأولية في ضوء فلسفة التاريخ، المهم أنّنا دخلنا مرحلة العبور الحضاري الكبير وفقاً للمنظور الهيغلي الذي ينطبق الآن على العرب مثلما انطبق على الأمم الأوروبية.