في باكورتها «حارس الوهم» (دار النهضة)، لا تكترث بانة بيضون بأن تكتب قصيدة تستوفي شروط الاقتضاب والحذف، ولا يهمها إن كانت اللغة مسترسلة رغم حيادية جملتها والبرود الظاهري على مزاج هذه الجملة. الحيادية تتضارب مع السرد والحكي. التفلسف الشخصي يطغى على المشهد أو الفكرة التي تُشغل بها اللغة، بينما سريالية مخففة تتجول في أغلب نصوص الديوان، وتمنح التفلسف والحيادية والسرد طبقة أخرى من الخصوصية من دون أن يتعلق ذلك بالجودة الناتجة عن كل ذلك. هكذا، يمكن أن نقرأ سطوراً مثل: «خلعتْ عينها الغريبة ووضعتها في حوض الأسماك/ جلست ساعات تتأملها بعينها الأخرى/ تلك التي ألصقوها عنوةً بجفنها/ كي ترى أفضل»، وأن نقرأ: «ذلك البركان في رأسي والحمم بردت على جلدي/ أفكاري كتلك السكين الصدئة في المطبخ حادة فقط على أصابعي/ كل فكرة صغيرة ورخوة تنتقل في رأسي كالبزّاق/ والكلمات تداعب نفسها وتتكاثر كالبكتيريا». صور وأفكارٌ مثل هذه تتجاور مع صور وأفكار من النوع نفسه لكنها أقل تلاطماً كما في: «العواصف ليست سوى محاولات انتحار هوائية فاشلة»، أو في: «لم يتحرك الوقت/ رغم أن وقتاً آخر كان يدافعه ويحثّه على المضيّ/ لكنه كان سعيداً في المكان الذي اختاره»، أو في صورة مثل: «أتقوقع في السرير ككيس من اللحم المجلَّد».
بهذه «المخيلة العوجاء»، بحسب عنوان إحدى قصائد الديوان، تكتب الشاعرة اللبنانية الشابة نصوصها غير المنضوية في سياق صارم، وغير المبالية بأن تكون البراعة الشعرية وجمالياتها حصيلة لغة لطيفة ومنضبطة. الأهم بالنسبة إليها هو أن تترجم الفكرة أو الحالة بهذه اللغة التي قلنا إنها خليط من الحياد والسرد والتفلسف. بهذه الطريقة، لا تنجو القصيدة أو النص من الاسترسال السلبي أحياناً، ومن الرخاوة السردية أحياناً أخرى، بينما المعنى وحده يشتغل على إنقاذ النصوص وإيصالها إلى القارئ الذي يتسامح مع هذه النصوص المتفاوتة الجودة، طالما أنها تُقنعه بمعانٍ طازجة واستعارات مفاجئة. في المقابل، لا تكون هذه المعاني جاهزة وميسّرة. إنها محكومة أيضاً بالسرد والتأملات الفلسفية والحياد اللغوي، وهو ما يجعلها مدفونة تحت هذه الصفات وعائمة عليها في آن واحد، لكنها تتخلص من كل ذلك أحياناً، وتواجه القارئ وحدها كما في قصيدة «الشعرة الصغيرة»: «كنت أنام ورأيت بطرف عيني الشعرة الصغيرة على السرير/ كنت أحاول أن أنام/ والشعرة مرمية مقتولة/ عليّ أن أنفضها، لا أستطيع/ لم تترك فراغاً على جلدكَ/ هذه الشعرة الصغيرة/ وحتى لا تعرف أنها تنام بجانبي/ أفكرُ أن أضعها في ظرف وأرسلها بالبريد/ لكن أخافُ ألا تتعرف عليها/ كما كل الأشياء التي سقطت منكَ سهواً/ في حياتي/ وانتحرت على سريري». قد يكون الحب سبباً في وضوح هذه القصيدة واكتفائها بنفسها، إلا أن هذا الوضوح حاضر في موضوعات ومشهديات أخرى أيضاً. صحيح أنها قليلة مقارنة بالمناخ العام للديوان، ولكن الشعر يصيب أكثر فيها: «على الحائط ظلٌ يشبه نافذة/ ربما على غفلة/ ذات صباح أو ذات مساء/ سيتسرّبُ الضوء من ذلك الشقّ الصغير في الحائط/ وتستحيل النافذة حقيقة/ ربما هذا هو الشيء الغامض الذي يجعلنا نستمر/ بعضُكم قد يدعوه الأمل».