لندن | لم يخف السينمائي علي رفيق قلقه أثناء عرض شريطه الوثائقي «سنوات الجمر والرماد» في لندن قبل أيام. ظلّ يرصد ردود الفعل، ويستمع الى انطباعات الحضور كأنّ لسان حاله يقول: «هذا ما تمكّنت من إنجازه وفاءً لتجربة لم يكتب لها أن تدرَّس بما فيه الكفاية. لم أنكب على مشروع سينمائي جاد منذ فترة طويلة. وقاربت موضوعاً إشكالياً يطال تاريخ الحزب الشيوعي العراقي في اختيار العمل المسلح، وبضغط من قواعده، أو ما عرف بـ«حركة الأنصار الشيوعيين» إبان ثمانينيات القرن الماضي. وكان عليّ الاعتماد في إنجاز مشروعي السينمائي على ميزانية شحيحة ومتطوعين، أغلبهم عُرف بكنيته الحزبية، ومن لون سياسي معين».
مع ذلك، فإن ما يقترحه الشريط يتجاوز رغبة البعض في تصحيح مسارات التاريخ القريب وفق نظرة متبطرة ترى أنّ حساب البيدر يجب أن يتساوى مع غلة الحقل. ما يقترحه الشريط هو تجربة سياسية ومسلّحة تستحق التوقف عند نتائجها وما أفضت إليه. صحيح أنّ الكثير من قصص العراقيين، ونضالاتهم السلمية والمسلحة ضد ديكتاتورية «البعث» ظلّت منسية أو حبيسة الذاكرة. وما تسلل الى الأدب من تلك التجارب الواقعية ظل شحيحاً، ودار جلّه حول المصير الفردي لبطله أو أبطاله. ما يتبادر الى الذهن في هذا السياق، مثالاً وليس حصراً، رواية «شرق المتوسط» للكاتب عبد الرحمن منيف، و«وليمة لأعشاب البحر» للسوري حيدر حيدر.
يستعرض «سنوات الجمر والرماد» المراحل التي مرت بها تجربة «الأنصار»؛ وقرار الالتحاق بجبال كردستان عبر المنافذ الحدودية مع سوريا وتركيا. فوجئت قيادة الحزب الشيوعي العراقي بهذا القرار كما يسرد الفيلم الذي يرصد بناء المقر الأول، وتأمين السكن والمؤونة، والتعامل مع بيئة ــ طبيعة وبشر ولغة ــ غريبة بالنسبة إلى أغلب «الأنصار»، والتعامل مع مفرداتها لا على أساس الفرجة السياحية بل كجزء منها. للحصول على السلاح واستعماله، كان عليهم صناعة رشاشات خشبية للتدريب. حملة الأنفال وجريمة حلبجة، الزواج وتأسيس عائلة في ظرف استثنائي، وإطلاق إذاعة «صوت الشعب العراقي» موجهة الى بغداد كجزء من الإعلام الحزبي، والنشاطات الثقافية والحفلات الاجتماعية... كل هذه المراحل يتابعها الشريط عبر شهادات يستذكرها الناجون من تلك التجربة القاسية والمُرة. يبدأ الشريط بواحدة من حفلات التعذيب الوحشية لنظام بهيمي، عبر مادة أرشيفية مصوّرة، ثم يفتح على ما نتابعه على مدى الدقائق الـ 68 اللاحقة. وكما يسرد الشريط، فإنّ أغلب هؤلاء «الأنصار» انتهوا لاجئين في بلدان أوروبية. ونتعرف الى أنّ قرار العمل المسلح لم يكن قراراً مركزياً في حين كانت المطالبة بزيادة حصة الشاي تحتاج الى موافقة المسؤول الحزبي.
يتوقف الشريط عند الهجوم الغادر في بشت ئاشان في الأول من أيار (مايو) 1983 من قبل قوات حزب «الاتحاد الوطني الكردستاني» وراح ضحيته حوالي 80 شهيداً من الأنصار الشيوعيين العرب. كريم أحمد، أحد قادة الحزب الشيوعي وصفه بالـ«حقد الشوفيني الضيق والعمل المخابراتي»، وآخر سماه «رصاص الغدر والخيانة». ورغم نزول قوات الأنصار الشيوعيين الى شوارع أربيل ابان انتفاضة عام 1991، وسيطرتها على المدينة، كما تقترحه الأعلام الحمراء المرفوعة، إلا أنّ تجيير الانتصار جرت لفلفته من قبل حزب آخر. يعترف عزيز محمد، السكرتير الأول السابق للحزب الشيوعي العراقي «لم يكن هناك وهم بأنّ العمل المسلح سيسقط النظام» ويقول نصير شيوعي بأنّ «هذه التجربة لن تأتي بثمار أو نتائج طيبة. ولم يتوقف عندها دارس تاريخ العراق السياسي».
لوعة اجتهد علي رفيق في الإضاءة على بعض تفاصيلها ودروسها كخطوة أولى لكتابة تجربة ظلمت، ولتاريخ مُرّ. في حين جاءت الموسيقى التصويرية لتعبّر عن شجى مكين. شريط «سنوات الجمر والرماد» توثيق سينمائي لحركة مسلحة عربية ضد النظام الديكتاتوري، كانت الأكبر بين قريناتها التي شهدها تاريخ العراق السياسي القريب. إنّه إعادة اعتبار إلى قيمة الوثيقة التاريخية ولنضال لم يكتب له النجاح في بلد اللامعنى. ورغم تعثر الشريط في بعض روابط مقاطعه، حيث لا تفضي اللقطة الى شيء، فإنّ من يبحث عن الصياغات الفنية العالية الجودة، وصرامة الحبكة الدرامية، وكتابة تاريخ جامع مانع، عليه أن يتبسط قليلاً ولو لحين.



في الأدب

لئن عُدت «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف الأكثر جراءة في مقاربة المحظور السياسي عبر استلهام سيرة سجين سياسي في بلد شرق أوسطي ومحنته الأخلاقية في ترك بلده وعذابات نضاله، فإنّ حيدر حيدر استعار في «وليمة لأعشاب البحر» تجربة حقيقية خاضها شباب قرّروا في منعطف تاريخي وسياسي مهم اللجوء الى العمل المسلح، تحت تأثيرات الأفكار الماوية والغيفارية، يتقدمهم الناشط السياسي خالد أحمد زكي. فعل ذلك عبر جمع قصصهم الملحمية على لسان بعض الناجين من أتون معركة غير متكافئة كانت الأهوار مسرحها، حين التقاهم في مدينة عنابة الجزائرية.