«يبدأ تفاعل الاجتماع مع الدين بمجرد حضور الدين إلى الاجتماع، ومن هنا صعوبة الإمساك باللحظة الافتراضية التي يمكن عندها معاينة الدين مفارقاً للاجتماع أو سابقاً عليه». قد تكون تلك الصعوبة المذكورة في الفقرة السابقة، هي الدافع الأهم وراء كتاب عبد الجواد ياسين «الدين والتدين ـــ التشريع والنص والاجتماع» (دار التنوير). في كتابه الصادر حديثاً، يحاول المفكر المصري والقاضي السابق التأسيس للتفرقة بين الدين والتدين من أجل «إثارة النقاش حول تسكين التشريع بما في ذلك شقّه المنصوص، داخل التدين لا الدين». في رأي المؤلف، إنّ الخلط بين الدين والتدين، لا يقع فقط من قبل العقل اللاهوتي الذي يلحق التدين بالدين، بل يحدث كذلك بصورة معاكسة لدى العقل العلمي الذي يلحق الدين بالتدين. «نتيجة لذلك، إذا كان سيتعين على العقل الأول مواجهة سؤال التطور، فسوف يتعين على الثاني مواجهة سؤال الإيمان».
لكن الكتاب ليس محاولة بائسة أخرى لدفع العقل العربي إلى التمييز ـــ مثلاً ـــ بين التجربة والتطبيق، أو بين الدين وأهل الدين... يمكن القول بأنّه محاولة لتثوير مفهوم التدين نفسه من خلال اعتبار التشريع ـــ حتى المنصوص منه ـــ مرتبطاً بالتاريخ. بعبارة أخرى، إنّه الاكتفاء باقتصار الدين على «الإيمان والأخلاق الكلية»، واعتبار التشريع في الأديان التوحيدية عملية اجتماعية، تقع خارج نطاق الدين، حتى لو كانت بعض التشريعات مصدرها النصوص المقدسة نفسها، لا التفسير أو التأويل، ولا القياس أو الفتوى.
لكن، في طريقه لإثبات ــ أو اقتراح ــ هذا التعريف للدين، وتخليصه من براثن الاجتماع، يجابه المؤلف ثلاث مصادرات أولية: أولها أنّ الدين من حيث يقوم على مبدأ الوحي الإلهي، يرجع إلى مصدر مفارق للإنسان (..) ومن ثم فهو فكرة كلية مطلقة متعالية غير قابلة للتغير بفعل الاجتماع.
وتلك المصادرة تضع الثقافة التوحيدية في مواجهة سؤال التطور أو اختبار النسبية التاريخية، إذ كيف يمكن المطلق المحتوي على التشريع كجزء من صلب البنية الدينية، حسب الثقافة التوحيدية، أن «يعالج معطيات هي بطبيعة الاجتماع نسبية ومتغيرة»؟ و«بحيث يفرض على القانون (تشريع الفروع الاجتماعية) أن يكون واحداً على المستوى الكوني، ثابتاً على مدى التاريخ، بغض النظر عن حقيقة التعدد والتطور في بنيات الواقع الاجتماعي؟». المصادرة الثانية التي تواجه التمييز بين الدين والتدين، هي أن الإنسان هو موضوع الدين ومجاله، أي إنّ «حضور الاجتماع في البنية الدينية ضروري ليس فقط بحكم طبيعة الاجتماع، بل كذلك بحكم موضوع الدين». وبحسب ذلك، فإنّ إثبات المصدر الإلهي للدين، لا يعني إنكار حضور الاجتماع في البنية الدينية الكلية، والعلاقة بينهما تكون بشكل أساسي من خلال «النصّ» الذي هو في ذاته «آلية اجتماعية من حيث هو بناء لغوي وإن كان حاملاً لمضمون الوحي».
من هنا، يفترض المؤلف أنّ النص الديني «الصحيح» يتضمن ما هو مطلق ثابت يمكن وصفه بأنه من «الدين في ذاته»، وما هو اجتماعي قابل للتغيّر لا يجوز إلحاقه بالدين في ذاته، وحين يُنزل النص أخلاقه الكلية على الواقع متبنياً خيارات اجتماعية «فهو يعلن أنّ شقّاً من البنية الدينية اجتماعي، وبالتالي قابل للتطور».أما المصادرة الثالثة، فهي أنّه لكون الإنسان هو «الذات التي تتدين»، فإنّ ذلك يدفع إلى «حضور الخصائص والمثيرات المتباينة للذوات الفردية والهياكل الاجتماعية إلى منطوق البنية الدينية». ويعني ذلك أنّ «الفهم الناتج عن ملامسة النص ينبصم ببصمة الذات مرتين، الأولى عند إدراكه (تلقيه داخل الذات) والثانية لدى التعبير عنه (تعديته خارج الذات)». ويعني ذلك أنّ «الشيء في ذاته» لن يعود «الشيء ذاته»، بل أصبح «الشيء من منظور الذات المدركة». ما يراكم حول النص (المقدس) منظومات من الرؤى والمفاهيم والأحكام، مكونة ثقافة دينية أوسع من منطوق البنية الدينية التي يحملها النص، وهو ما يصفه المؤلف بأنّه «تضخيم الدين» من خلال التدين، بحيث «صار ما هو اجتماعي أكبر مما هو مطلق في منطوق البنية الدينية التي تعمّم على مكوناتها تلقائياً صفة القداسة المؤبدة». ويوضح المؤلف ذلك من خلال وصف تحول «السنّة» إلى مصدر مكافئ في مرجعيته وحجيته الإلزامية للقرآن، بعدما ظل القرآن طوال قرنين هو «الوثيقة النصية الوحيدة في الإسلام»، قبل أن تبدأ «حركة الطلب على روايات الحديث».
في الكتاب الذي يزيد على 400 صفحة من القطع الكبير، يقسّم المؤلف بحثه إلى قسمين، أولهما «الاجتماع المنصوص – النص في سياق النزول»، متناولاً الإطارين الزمني والموضوعي للنص المقدس، ومناقشاً بنيته وتشريعاته وأسباب نزوله، أما ثاني القسمين، فيعنونه «النص في سياق التطور – تضخّم البنية الدينية»، مناقشاً بنية التدين وتأثيرات الصراع السياسي، وظهور النص ـــ ثم الفقه ــ السني، من النشأة إلى «النضوج».
في مواضع متعددة من الكتاب، لا يضع المؤلف يده على عوامل القرابة بين الأديان التوحيدية فحسب، بل على القرابة الأشد بين الفقهين اليهودي والإسلامي في الأحكام التفصيلية، على الرغم من اختلافهما التشريعي الواسع. على سبيل المثال، إن عقوبة السرقة تختلف بين اليهودية (الغرامة) والإسلام (قطع اليد)، ومع ذلك يلاحظ التقارب الشديد بينهما في تحديد شروط الجريمة، ومن ثم شروط توقيع العقوبة. يتعرّض المؤلف للجغرافيا التي ينسب إليها تأثر النصوص التوراتية بنصوص حمورابي، ويتناول التأثير العبراني على «التدين» الإسلامي، وهو التأثير الذي أفضى إلى «توسيع دائرة المطلق على حساب الفاعلية المفترضة للإنسان»، وهو نمط يقمع تلك الفاعلية قمعاً، ما أدى بالعقل التجريبي الاجتماعي «إلى إنكار ما هو مطلق في الدين، واعتباره في مجمله ظاهرة تاريخية من صنع الاجتماع».
إذاً، ينشد عبد الجواد ياسين نمطاً مغايراً من التدين، يعدّ التشريع الديني بمجمله ـــ المنصوص المقدس والفقهي ــ عملية اجتماعية، مستقلة عن المطلق أو عن «الدين في ذاته»، ولا يحتاج القارئ إلى كثير ذكاء كي يدرك أنّ فكراً كهذا يصطدم بمشروع الإسلام السياسي في جوهره، فهو لا ينتزع منه السياسة فحسب، بل الاجتماع برمته.