في جديده «أنا كوماري من سريلانكا» (دار الساقي)، لا يبتعد الكاتب والمحلل السياسي حازم صاغيّة كثيراً عن هوايته الأثيرة: السرد. كأنّه يصرّ على الذهاب إلى حكيه كروائي وممارسة هذه المهنة بامتياز. كأنه كاتب احترف التحليل السياسي رغماً عنه وضلّ طريقه عن الرواية ولعبة السرد التي يهواها. صاحب «قضايا قاتلة» يفعل الشيء نفسه كل الوقت، أو كأنّه يفعله على الأرض. قصة الحكي... الحكي عن الناس العاديين. هناك أيضاً ما هو أكثر من ذلك. في «هذه ليست سيرة» مثلاً، يتحاشى القول إنّ الكتاب سيرته، بل يدرجه بوصفه تجربة حصلت لواحد من الناس قد يكون هو أو لا يكون... هو يسرد فقط. حتى إنّه افتتح كتابته البحثية القيّمة عن أم كلثوم في كتابه «الهوى دون أهله» بطريقة أنكر فيها أنّه يخوض في سيرة. في أغلب ما يكتبه، يخوض صاغية في السيرة، وإن كانت ناقصة.
ورغم هذا التوثيق الجاد الذي يتحاشى دخول لعبة التسميات أو التصنيفات، إلا أنّ الكاتب اللبناني يضع نفسه في خانة السارد، أو الراوي الذي لا يريد أن يفصح عن نفسه، رغم كونه راوياً كليّ العلم يعرف تماماً تفاصيل الحياة التي يروي عنها. لمسنا هذا في «مذكرات رندا الترانس»، تلك الفتاة التي اتّبعَ صاحب «نانسي ليست كارل ماركس» سيرتها وتحولاتها وهي الفتاة التي لم تعرف لنفسها ذنباً سوى أنها «تعرضت لكمّية من الاستروجين تفوق ما تعرّضت إليه من التيستوستيرون». بالتالي، إنّها الفتاة التي ضلّت طريقها نحو النوع الجنسي الذي لم يكن لها. يجيد حازم صاغيّة الخوض في المسائل الحميمية الخاصة بنحو واضح. يجيد استنطاق أصحابها أو كأنّه يهيئ المناخ اللازم لها كي تنفتح على الحكي والسرد. إنّه اهتمام واضح بالناس العاديين الذي يعيش معهم، وهذا ما يظهر مجدداً في عمله الجديد «أنا كوماري من سريلانكا» الصادر عن «دار الساقي». إنّها شخصية من لحم ودم. الشابة السريلانكية كوماري تمزّقت حياتها وروحها بجواز سفر مزوّر في أكثر من زاوية من الوطن العربي الكبير من القاهرة إلى الكويت، وصولاً إلى بيروت. في كل يوم لها هنا أو هناك، عانت ما عاناه من جبال من الألم. اقتفى صاغية رحلتها على طريق طويل من العذابات وخرج بكتابه الجديد. تركت كوماري ابنتها في موطنها لتخوض الترحال في بلاد أخرى. أخبروها فقط أنها ستحصد هناك مالاً كثيراً يعوّض ابنتها عن الحياة التي عاشتها هي، في ما يشبه البحث عن الفردوس المفقود. لكن في بيروت، ستكون لها قصة أخرى... مع الجحيم بحد ذاته. حطّت الطائرة بكوماري في بيروت. كان في انتظارها الكفيل اللبناني الذي يُفترض أن تعمل لديه في البيت مقابل 100 دولار شهرياً. قبل أن يتسلمها الكفيل، خضعت كوماري لحقنة تجرى لـ«الخادمات الجدد» عندما يزرن لبنان للمرة الأولى! لا يحدث هذا إلا مع الخادمات الأجنبيات، «وهذه تجربة كنت قد تدرّبت عليها في الكويت عند طلب الإقامة، وقد كانت أشمل وأقسى» تقول كوماري.
لكن يبدو أنّ ما لاقته في المطار لن يكون سوى أول الغيث. هناك جحيم آخر سينتظرها، حيث أمّ ذلك الكفيل/ القاضي الشهير ستذيق كوماري الأمرين. أما القاضي، فسيحاول التوفيق ــ من دون جدوى ــ بين طبع والدته القاسية وتلك المسكينة التي ستحاول الانتحار هرباً من جحيمها البيروتي.
«تلك العجوز كانت تتفنن في تعذيبي. كانت تفرض عليّ، مثلاً، ألاّ أنظف المرحاض بالعصا، بل بيديّ وبالإسفنجة فحسب، فكنت أبكي باستمرار...» تقول كوماري ساردة عذابات كثيرة أخرى لا نهاية لها. وتضيف: «في البيت عُلّقت صورة كبيرة ليسوع. كنت أقف أمامها وأبكي وأطرح على المسيح بعض أسئلتي وهواجسي. وهي كانت تسألني حين تراني أفعل ذلك: ماذا تقولين لله، وهو أيضاً نفس السؤال الذي كانت تواجهني به حين تصطحبني معها للصلاة في الكنيسة أيّام الآحاد. كنت أجيب: هنا لا أحد يسمعني، أريد أن يسمعني الله على الأقلّ».