عمان | أنجزت الصحافة الأردنية الكثير خلال الفترة الماضية، وخصوصاً على صعيد رفد المهنة بالدماء المنفتحة على الألوان الصحافية الحديثة والقادرة على الاضطلاع بدور مهني مستقل. لكن في موازاة ظهور الصحافيين الشباب، تنهار المؤسسات الصحافية وتصبح مجرد أدوات بيد مسؤول أو ثري أو تتحول إلى مؤسسات ترضيات توزّع الوظائف والرواتب السوداء على من تريد الدوائر المتنفذة شراء ذممهم.لقد أمضت تلك الصحافة سنوات في كنف الحكومات والنظام، وكانت تؤدّي واجبها المهني بهذه النسبة أو تلك. ولكن اليوم في عصر الانفجار الإعلامي، يبدو أداء الدور المهني حلماً يتلاشى يوماً بعد يوم مع حالات القسر والتدخل الحكومي. ونلحظ أن الآمال التي انتعشت في التسعينيات بتحول الإعلام الحزبي إلى صحافة مهنية تغني المشهد، انتهت اليوم باحتمال أن يعود هذا الإعلام ليكون منشوراً سرياً. وليس اليوم ما يمنع ذلك سوى سقف الشارع المرتفع الذي لا يمكن السيطرة عليه.

لا تنطبق هذه المخاوف على صحافة «الإخوان المسلمين»، الحليف التاريخي اللدود للنظام الذي لا يجيد التخلص من إرثه الثقيل مهما أراد، ولا يقوى على التعايش معه في آن واحد؛ فحاجة العدوين اللدودين أحدهما للآخر تخفّف من وطأة أي إجراءات وتقلل من حدة القيود. الأسوأ من ذلك أن أوّل ما تعلّمه المؤسسات الصحافية لمنتسبيها الجدد أنّ مصلحتهم المباشرة ليست في المهنة نفسها، بل في إرضاء المستفيدين منها (حكومات ووزراء) وفي ما يمكن تحقيقه من منافع خاصة. كذلك نرى أنّ التضليل يبدأ من البديهيات، فالصحف التي تتكتم عن أرقام توزيعها بزعم أن ذلك سرّ تجاري، تروّج هي نفسها لأرقام مشكوك فيها تصل إلى عشرات الآلاف.
اللافت أنّ مداخيل الصحافة الاردنية من الإعلان لا مثيل لها مقارنةً بمداخيل صحف عربية، وتناهز مداخيل صحف خليجية، رغم أنّ السوق الاستهلاكية في الأردن لا تضاهي مثيلاتها في دول الجوار. أما العلاقة بين المعلن والسلطة التي توجّه الإعلان، فتشير إلى حجم الفساد القائم على الخدمات المتبادلة بين أهل الحكم والمصالح التجارية.
غابت الخدمات المتبادلة خلال الفترة الماضية عن علاقة أركان السلطة بعضهم ببعض في ما يتصل بالإعلام، إذ تحولت الصحافة إلى ساحة منازلات تتناطح فيها دائرة المخابرات العامة مع الديوان الملكي أو السلطات السياسية، واللافت أنّ الدائرة تربح المعارك التي تكون طرفاً فيها، سواء كان ذلك مع البرلمان أو مع الحكومة.
لم تؤد معارك أركان السلطة على الصحف إلى أي مكاسب مهنية في مجال ترسيخ الحريات الصحافية؛ إذ إن هذه المعارك تأتي على الدوام في صيغة خروقات سرعان ما تُعالجها الجهة التي تستخدمها فور انتهاء الغرض منها. بينما تظلّ دائرة المخابرات تمارس السيطرة والرقابة بأدواتها، حتى على خطابات الملك ومقابلاته الصحافية في الخارج، فيحذف منها على اعتبار أنّ للداخل خطاباً وللخارج خطاباً. وفي الداخل، بقيت الصحافة الورقية لا تجرؤ على نشر هتافات الشارع، رغم أن المواقع الإلكترونية تنشرها.
يعيد الأمر إلى الأذهان الدور الذي يؤديه الضابط المسؤول عن الإعلام في دائرة المخابرات، أشهرهم اللواء المتقاعد فوزي المعايطة المقرّب من محمد الذهبي مدير المخابرات العامة السابق (من عام 2005 حتى 2008) المحكوم عليه بتهم تتعلق بالفساد في عهد الحكومة الأردنية التي كانت برئاسة نادر الذهبي. ففي عهدهما (محمد الذهبي وفوزي المعايطة)، انتعشت الصحافة على نحو غير مسبوق، ليس من باب التزامهما الحريات العامة، ولكن لأنهما كانا أكثر من استخدم الصحافيين في معارك الدائرة المفتوحة (2008 ــ 2009) مع حكومة الظل القابعة في الديوان. حوّلت تلك المعارك الصحافي إلى محفظة مصادر، وممثلاً لواحد من مراكز القوى. يكتب ما تتلوه عليه مصادره من دون خيارات مهنية. ويمكن تخيّل حال صحافي يتعامل مع مصادر أقوى منه، ومستعدة لتمارس سطوتها عليه، وقادرة على ترغيبه بنعيمها.
الدور الجسيم الذي أدته الصحافة في معارك السلطة، أوجد إرادات على حساب إرادة الملك. للتعامل مع ذلك الموقف، تم وضع اليد تحريرياً على الصحف، وتحرير المؤسسات الصحافية الخارجة عن السيطرة من أصحابها وهيئات تحريرها للاطمئنان إلى تحويلها إلى حمل وديع لا يبعث على القلق. واللافت أنّ الصحافة التي اندفعت مستبسلة في خوض معارك الدائرة الطاحنة، تستسلم برقة لمحاولة تدجينها، رغم أن هذه المحاولة تعني أن عليها توديع الدنيا. ولكن لا لوم على امرئ مؤمن إن زهد بالدنيا الفانية!