حين عُرضت «بائعات الحلوى» Les pâtissières على خشبة «مسرح لي ديشارجور» في باريس قبل شهرين، عرفت نجاحاً فورياً، وركّزت المقالات النقدية في الصحف والمجلات الفرنسية على الممثلات الثلاث اللواتي «فرضت كل منها شخصيتها من دون سحق الأخريات». وكان الاحتفاء كبيراً ببطلات العرض الشهيرات كريستين موريّو (مينا)، شانتال درواز (فلو) وكريستين غيردون (ليلي)... فكيف سيستقبل الجمهور اللبناني العمل الذي يقدّم ابتداءً من اليوم على خشبة «مسرح دوّار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ضمن فعاليات «الشهر الفرنكوفوني في لبنان»؟
العمل كتبه البلجيكي جان ماري بيام، وأخرجه اللبناني نبيل الأظن، يحكي قصة محل حلويات هزمته الآلة الصناعية التي باتت تصنّع الحلوى بالأشكال والألوان وبالآلاف. هذه الباتيسري ليست سوى استعارة لأوروبا اليوم المهدّدة بالعولمة والسرعة واندثار معالمها القديمة. وبهذا المعنى تحديداً، يستطيع العمل محاكاة الواقع اللبناني أيضاً، فـ«أين الفضاءات اللبنانية العامة؟ أين البرج؟ وأين ذكرياتنا؟ وأين نموذج للعيش المشترك بين الطوائف... الماضي يمحى أمام أعيننا» هذا ما قاله المخرج اللبناني الفرنسي في إحدى مقابلاته، مشيراً إلى أنّ المسرحية «فانتازيا حول الزمن والشيخوخة والوقت الذي يمر في زمن التحولات القاسية وصعوبات الحداثة ومشاكلها».
إذاً، تحلّ «بائعات الحلوى» على الخشبة اللبنانية لتحكي اندثار الماضي وانحسار القيم القديمة ومصير الأفراد وانسحاقهم أمام آلة العولمة المتوحّشة. بنظارات سوداء وفساتين خفيفة، وأحمر شفاه، تجلس الأخوات الثلاث في دار للعجزة يتآكلهن الندم بعدما خسرن «باتيسري شارلمان» محل بيع الحلوى القديم الذي ورثنه أباً عن جد. الظروف وتحولات العصر ورياح التغيير دفعتهنّ إلى بيعه بعدما صار الزبائن يفضّلون الحلوى الاصطناعية الأرخص على تلك الأغلى المصنوعة بمهارة الحرفي وحبّه. على دروب الماضي، ستأخذنا الشقيقات الثلاث حيث يجتررن يأسهنّ: «القليل من وحشية هذا العالم» تقول فلو بين جُرعتين من الويسكي. «نضحكُ كثيراً، نُغني غالباً، كنا نعيش». إلا أنّ الحاضر، مع الأسف، يُبعدهن عن تلك «اللحظات السعيدة» التي عشنها في الباتيسري. «كل شيء فارغ الآن» هذا ما تُعبّر عنه حركات الأخوات الثلاث على هامش الزمن الغابر. لقد جاءت العولمة لتخلع هذه المهنة عن عرشها وبتنا «نادراً ما نجدُ خبراء في فن صناعة الحلوى». مينا وفلو وليلي أُجبرن على التخلي عن محل بيع الحلوى القديم لسمسار عقارات هو السيّد بنترول.
إذاً كانت الأخوات الثلاث للكاتب الروسي تشيخوف قد اندثرت أحلامهن مع التقدّم في الزمن، ويشعرنَ بتأنيب الضمير لأنهنّ لم يقمن بأي عمل في حياتهن فاستسلمن لليأس، فإنّ «بائعات الحلوى» الثلاث ــ من جهتهن ـــ يندمنَ، بنبلٍ وكرامة على انهيار امبراطوريتهن «باتيسري شارلمان». هن لم يكنّ مذنبات إطلاقاً في هذا المصير لأنّهن عشن الماضي بشغف وحبّ ولو كانت ليلي تحلم بشيء آخر لحياتها ومستقبلها وهو أن تغنّي في «الأوبرا». لقد تفرّغن لهذه الباتيسري بشغف، إلى أن أفل ذاك العصر الذهبي حين كان روّاد الباتيسري قادرين على تذوّق «طعم حلوياتهم» والتمييز بين الحلويات الطيبة، وما تبيعه حلويات الآلات الاصطناعية (البكتيريا بالكريما مش لالنا بل لحلويات مينيماركت الحي على حدّ قول فلو).
بهذا الحنق من الحياة، تعود كلّ من مينا وفلو وليلي بنعومة وعنف إلى الماضي المجيد لباتيسري العائلة. كل هذه الحوارات تجري في دار المسنين ضمن سينوغرافيا متقشفة وبسيطة أنجزتها صوفي جاكوب مدعمّة بمؤثرات ضوئية بتوقيع فيليب لاكومب، وأزياء دانيال روزييه، وصور علي شرّي. والنتيجة إخراج مضيء وخفيف ورهافة اشتهر بها نبيل الأظن الذي استطاع السيطرة عبر حسّ النكتة على التناقض الوجداني الذي تعيشه نساؤه الثلاث. إنهنّ غاويات متأنقات، عطوفات، صلبات، رهيبات. يقاطعنَ أحاديث بعضهنّ ويستعدنَ ذكريات الأب المؤسس المعلّم بحنين وألم ثم تجمعهن وتوحّدهن العداوة للسيد بنترول. الزوال يخيّم على المسرحية. الزوال يعني الموت المادي أيضاً، فأعمارهن تتراوح بين 60 و70 عاماً، لكنّه أيضاً زوال حقبة، ومرحلة وقيم وعصر.
من خلال نصّ جان ماري بيام، يشدّنا نبيل الأظن بذكاءٍ وخفّة إلى مواجهة تحديات الحياة الحديثة حيث نمط الحياة يسلخنا عن انسانيتنا وماضينا. نحن نركض لأنّ الركض بات شرطاً للبقاء حيث لا مكان لحرفيين يتلذّذون في صنع الحلويات بمتعة وببطء.
في إحدى المقالات النقدية عن المسرحية، ذكرت جريدة «ليكسبرس» الفرنسية ثلاثة أسباب لمشاهدة العرض أولها الممثلات الثلاث اللواتي يقدّمن فنّ الكوميديا كما لم نره من قبل. يعتلين الخشبة وفي رصيدهن أربعون سنة من العمل في المسرح والسينما. تعاونّ مع أسماء كبيرة ومع مُخرجين معروفين في المسرح الباريسي أمثال ميشال دوبوا، ميشال بوكيه، جان-لوي بارو، دوني لوركا، جاك ويبر... أما السبب الثاني فهو الكاتب البلجيكي جان ماري بيام الذي يقدّم لنا ثلاث اخوات جرَّدن من سبب العيش وحافزه. لكن خلافاً لما سنتوقعه، فإنّ الأخوات الثلاث لا يصبن بالهستيريا ولا بالكآبة، بل يتعاملن مع يأسهن بحس فكاهة. وأخيراً يأتي إخراج نبيل الأظن الحيوي، والفرح ذو الوتيرة المدروسة. فالمسرحية التي تتطرّق إلى مواضيع وقضايا مزعجة وجدية كالزمن والحياة والتحوّلات المرتبطة بالحداثة والعولمة والتقدّم في السنّ، إنما تطرحها بخفّة وفكاهة من خلال الحوارات الطريفة... وهذا ما سنشاهده في العرض البيروتي: قطعة حلوى مُرّة بعض الشيء.

Les pâtissières: من الثامنة مساء 7 آذار (مارس) حتى 10 منه ـــ «مسرح دوّار الشمس» (الطيونة ـ بيروت) ـــ للاستعلام: 01/381290




مشروع جديد

يقيم نبيل الأظن في باريس منذ العام 1978. المخرج اللبناني المتخرّج من «جامعة السوربون» في الدراسات المسرحية والحائز «جائزة المنتدى الثقافي» في باريس عام 2007، أسس منذ حوالي عقدين، فرقة «لا باراكا» في فرنسا. قدّمت هذه الفرقة عروضاً مسرحيّة معاصرة مثل «مهاجر بريسبان» لجورج شحادة، ومسرحية «عقد هيلن» التي كتبتها الكنديّة كارول فريشيت. وبعيداً عن المسرح، كشف أخيراً أنّه ينكب على مشروع جديد كناية عن «كتاب أدبي يتمحور حول امرأة لبنانية معروفة وسيصدر في الأشهر المقبلة» رافضاً إعطاء المزيد من التفاصيل.