«مصادفة» جميلة أن يخصّص الشهر الفرنكوفوني في لبنان أياماً عدة لدولة واحدة هي رومانيا وفحص علاقتها بلبنان عبر الجسر الفرنكوفوني وعلاقتها بفرنسا ومعرض «ذاكرة الجدران» (حتى 24/3 ــ بلدية جونية) الذي يعكس الروح الفرنسية في الهندسة المعمارية الرومانية. افتتحت شهر الفرنكوفونية الرومانية جينيكا، عشيقة الشاعر والممثل الفرنسي أنطونان أرتو (1896 ــ 1948)، إذ شاركت نجمة السينما الفرنسية كارول بوكيه في إطلاق فعاليات هذا الشهر من خلال قراءة على أنغام البيانو لنصوص من «رسائل إلى جينيكا أثاناسيو» كتبها أرتو لمعشوقته الرومانية جينيكا (من 1922 إلى 1927).
تلك الرسائل كانت بمثابة مرآة عكست مزاج الكاتب والمعاناة التي رافقته طوال حياته، هو الذي أصيب بمرض الزهري الوراثي في طفولته، وانعكست تلك المأساة على الرسائل التي كتبها إلى المرأة التي أشعرته بذاته.
وحدها نجمة عالمية من وزن كارول بوكيه قادرة على أن تعكس هذه المشاعر العميقة المتضاربة. هي التي جسدت شخصية بطلة المقاومة الفرنسية لوسي أوبراك في فيلم من إخراج كلود بيري، وأطلت في فن الفودفيل عبر «قبّل من تريد» من إخراج ميشال بلان. عام 1977، اكتشف السينمائي الاسباني لوي بونويل، بوكيه، فشاركت في فيلمه «الشيء الغامض للرغبة»، وفي 1981 جسّدت دور «فتاة بوند» إلى جانب الممثل روجير مور في فيلم «لعينيك فقط» للمخرج جون غلين، ما أكسبها شهرةً عالميةً.
ولكن الحياة الشخصية لهذه الممثلة (إضافة إلى التمثيل المسرحي) لا تختلف كثيراً عن حياة جينيكا، فهي كانت حبيبة المنتج اللبناني جان بيار رسام (والد أحد أطفالها) الذي عانى ــ تماماً كأرتو ــ من الاكتئاب والإدمان قبل أن ينتحر. من خلال إطلالة مسرحية بسيطة ورزينة، شاءت كارول بوكيه الإعراب عن حبّها لأرتو، ذلك الكاتب والممثل الذي اعتبر مجنوناً وعومل على هذا الأساس، لأنه تجرّأ على تجاوز حدود شخصه، ليتشارك آلامه ومآسيه وعلاقاته الصاخبة، فأضحى منظّراً مسرحياً وممثلاً وكاتباً ورساماً وشاعراً.
أما عن برنامج الشهر الفرنكوفوني تحت عنوان «نحلم الفرنكوفونية»، فقد انتهج «المعهد الفرنسي في لبنان» سياسةً لامركزية من خلال تقسيمه فعاليات الاحتفال على مراكزه الثمانية المنتشرة في المناطق اللبنانية. توفّر المكتبات والمراكز المتعددة فرصةً للجيل الجديد للتعرف إلى ورش العمل الخاصة بالكتابة والرسم والمسرح والرقص والنحت. لكن باستثناء عرض «كلّ البشر يرقصون» لزاد ملتقى ضمن فعاليات «مهرجان البستان»، ستبقى العروض الأخرى محصورةً في بيروت، ومنفتحةً على العالم. فيما يأخذنا ملتقى إلى السكان الأصليين في أمسيته (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة)، يصحبنا الشهر الفرنكوفوني إلى إثيوبيا، حيث تقدم الصحافية والمصوّرة نورما ناكوزي «نساء إثيوبيات». تقول ناكوزي إنه خلال وجودها في منطقة بدارو في بيروت لإعداد تقرير عن سقوط الطائرة الإثيوبية قبالة الشواطئ اللبنانية عام 2010، رأت شابات «يرتدين ملابس تقليديةً ويضعن أوشاماً على وجوههن وأيديهن». وعلى مدى ثلاث سنوات، تمكّنت من كسب ثقة أولئك النساء، وشاركتهن حياتهن التي يعشنها بعيداً عن أطفالهن وعائلاتهن أملاً بمصدر رزق. ومن بدارو إلى مختلف المناطق اللبنانية، ترشدنا نورما ناكوزي إلى عالم ينمو ويتطوّر بالتوازي مع مجتمع لبناني لا يكاد يلاحظه، لأنّهن مثل العاملات المنزليات، «نكرات» بنظره وغالباً ما يجردهن من إنسانيتهن. وفيما تواصل «فرقة بيروت للرقص» تقديم عرضها Un.rela(a)ting الذي يستكشف تعقيدات العلاقات البشرية على خشبة «مسرح المدينة»، يطلّ مهرجان «الصوت حرّ» على مسرح «مونتاني» (2223/3). على خلفية موسيقى العالم والجاز والرقص والألعاب البهلوانية، تختلط الأقوال الشعبية وأحاديث الشعراء والعلماء (هذه الفكرة كانت في البداية مبادرةً من بيتر بروك في مسرح Bouffes Du Nord الذي منح ملجأً لأجيال من الفنانين القادمين من الخارج). يسعى «الصوت حرّ» إلى تذليل الحواجز بين الأجناس الفنية والهويات البشرية... عرض يلخص السياسة الثقافية لـ«المعهد الفرنسي» لهذا الشهر.