مرّت زيارة زياد الرحباني إلى شمال لبنان على خير. قدَّم حفلتين ناجحتيْن (تنفيذاً وتفاعلاً جماهيرياً) في مجمَّع «لاس ساليناس» الساحلي. الظروف ذكّرتنا بحفلتيْه في «الأونيسكو» عام 2007 (Da Capo) اللتين تزامنتا مع معارك نهر البارد. شكْل الفرقة أيضاً كان قريباً لما كان عليه قبل ست سنوات. أما البرنامج هذه المرّة، فتوجَّه إلى جميع فئات جمهور زياد، فيما عُدّت Da Capo أجمل هدية لمقدّري زياد الموسيقي ومنتظِري جديد على هذا الصعيد.
هذا المساء ينطلق «مهرجان القاهرة الدولي لموسيقى الجاز» في دورته الخامسة، ويُختتَم السبت المقبل مع زياد الرحباني بعد ثلاث سنوات على مشاركته الأولى فيه. في الواقع، لا ضرورة كبيرة للدخول في تفاصيل برنامج المهرجان لسببَيْن: ما له علاقة بالجاز على البرنامج هو من الفئة المغمورة، وهذا لا يمنع أن يكون بين هذه الفرق ما يستحق التقدير. أما المعروف من المشاركين، فلا علاقة له بالجاز، والمقصود جيلبرتو جيل.
وفي الواقع، ثمة مبالغة عالمية ـــ لا في مصر الآن فحسب ـــ في تقدير فنان البوب البرازيلي، مردّه على الأرجح، إلى انخراطه في السياسة (في الفن والممارسة) والتزامه القضايا الاجتماعية. الرجل ليس حتى من أنصار الأغنية التي يرضى عنها الجاز والشعب. والمقصود البوسّا نوفا، تلك الحرفة الصعبة، حيث «الضربة» الخاطئة في التأليف تنتج عنها أغنية لا تطاق، وضربة المعلم تنتج عنها تحفة خالدة.
على برنامج زياد الرحباني للحفلة (23/3) التي يقدّمها على مسرح «حديقة الأزهر»، أعمالٌ لا علاقة لها بالجاز أيضاً، لكن الفرق يكمن في أربعة مستويات: أولاً، لن يخلوَ البرنامج من الجاز الصافي (أو البوسّا نوفا)، من تأليفه أو من الريبرتوار الكلاسيكي. ثانياً، لا تخلو بعض أغانيه الشعبية العربية من حيِّز للجاز في صميمها. ثالثاً، لو أراد تقديم برنامج جاز خالٍ من أي شائبة، لما كان الأمر ممكناً فحسب، بل أسهل بكثير بالنسبة إليه. أخيراً، فمهرجان الجاز المصري هو الإطار الذي يستضيف زياد، لكنّ المطلوب تقديمه ـــ كما أوحى المنظمون مباشرةً والجمهور ضمناً ـــ هو أعماله الأقل التصاقاً بالجاز. انطلاقاً من هذه المعطيات، كوَّن زياد فرقةً (من مصريين، لبنانيين، أرمن، سوريين... وهولنديٍّ واحد مِن ذهَب) وبرنامجاً يرضيانه، ويرضيان الجمهور والمنظّمين، ويحترمان العنوان العريض للمهرجان. وهذا بعض ما سنسمعه في القاهرة: «خليك بالبيت»، «صباح ومسا»، «بيذكِّر بالخريف»، «العقل زينة»، «شو هالإيام»، «بالنسبة لبكرا شو؟ - 2»، إضافة إلى ما هو مطلوب جداً شعبياً والجواهر الموسيقية غير المنشورة وأخرى من التي انتشرت بنسخ «غير رسمية» على الإنترنت، أو التي قلّما قُدِّمت في الحفلات من قبل.
لكن، مهما كان نوع العمل، تبقى مقاربة فن زياد الرحباني هي الأهم. مَن يحبّ فنه بالتساوي أو بالتزامن مع حبه للفن التجاري أو الركيك (وهذا رائج جداً!)، يكُن قد وصله منه الغلاف الخارجي لا أكثر، وتحديداً عندما نتكلَّم عن الشكل الموسيقي المفهوم من الجماهير، الذي يتمثل تاريخياً في...«الأغنية». لناحية الكلمة، فإن الشعر الذي يكتبه الرجل مفهوم دائماً كمعنى، لكنه غير مُلتَقَط أحياناً كقصد. فهو لا يستعمل إلا عبارات نستخدمها. لذا، يسهل علينا فهم معنى «كلماتنا»، لكن هذه السهولة هي التي تؤدي غالباً إلى عدم التقاط القصد. كذلك في النغمة، لم يجنح زياد نحو نوتات غير مفهوم تسلسلها (اللحن) أو تداخلها (التوزيع) في «الدماغ الموسيقي الشعبي»، لكن، بهدف تطوير الفهم الموسيقي الفطري عند العامة بغية استيعاب مادة أعقد (بسبيل وعيٍّ أنضج وفرح أجمل وأكبر لا غير)، اعتمد زياد، ضميرياً لا إرادياً، وسيلتيْن (مجتمعتيْن): الأولى، إضافة حلقة غير مألوفة إلى اللحن، بحيث يبقى مفهوماً من دون جهد مع أنّه فقد بديهيته. الثانية، الغوص في توزيع شديد التعقيد، لكن حَسَن النتيجة سمعاً. والأهم من ذلك، الديناميكية المتبادلة بين الوسيلتيْن، حيث يصبح «الحديث» الجاري داخل العمل الموسيقي على الشكل التالي: يقول اللحن للتوزيع: أنا مَن يوصِلكَ سريعاً. ويردّ التوزيع عليه: أنا مَن يُحْييكَ طويلاً. لهذا، لا ضرورة لأن يحمل زياد إلى مصر نصاً سياسياً ناقداً. الفن الحقيقي أشد تحريضاً على المطالبة بحياة أفضل. ألم يقل الفيلسوف الألماني صاحب الشاربيْن الكَثيّن إنَّ وظيفة الفنّ تجميلُ الحياة؟