«ليالٍ بلا نوم» فيلم وثائقي جمعت فيه إليان الراهب بين أسعد الشفتري ومريم السعيدي. الأول هو مسؤول المخابرات السابق في «حزب القوات اللبنانية»، شارك في الحرب الأهلية ويبحث اليوم عن تكفير ذنوبه وتوعية الأجيال الجديدة عن مخاطر الحرب. أما مريم السعيدي، فهي أمّ فقدت ابنها (ماهر) المقاتل في الحزب الشيوعي أثناء اقتحام «القوات» لفرع العلوم في الجامعة اللبنانية في منطقة الحدث عام 1982. الاثنان يعيشان ليالي بلا نوم. يغوص الشريط في حياة كل منهما، ثم يجمعهما في مواجهات عدة.
الفيلم الذي عُرض ضمن «أيام بيروت السينمائية» التي اختُتمت أمس، تكمن أهميته في فضح الطريقة التي أغلقت فيها الدولة اللبنانية ملف الحرب الأهلية عبر إصدار عفو عام، بينما اعتمدت الدول التي شهدت حروباً مماثلة مبدأ العدالة الانتقائية القائم على المصارحة، وإعادة سرد وقائع الحرب، وفتح المقابر الجماعية، والأهم تكريس أطر لمجابهة الجلاد بالضحية كخطوة نحو التصالح والمسامحة. داخل هذا التصور، تحاول الراهب أداء الدور الغائب للدولة اللبنانية من خلال نموذج مصغّر للعدالة الانتقالية. هكذا، أجرت مواجهة بين أحد الجلادين (أسعد الشفتري) وإحدى الضحايا (مريم السعيدي). فتحت مجالاً لكليهما كي يخبرا قصتيهما، ويقدما الوقائع التي بحوزتهما، مع تحفظ الشفتري على بعض المعطيات التي قال إنه لا يمتلك حق فضحها بما أنها تطاول أشخاصاً آخرين. كذلك نشهد مواجهة بين أسعد ومريم، وبينه وبين المطران غريغوار حداد الذي كان أسعد مكلفاً مراقبة تحركاته خلال الحرب بوصفه عدواً لـ«المشروع المسيحي».
اختارت صاحبة «هيدا لبنان» محورين أساسيين: تعقب الحقائق، وحميمية الحياة الشخصية لمريم وأسعد. أظهر محور تعقّب الحقائق (راجع الكادر)، ضعفاً في بنية الفيلم عبر إصرار الراهب على استنباط معلومات جديدة من أسعد الشفتري. فيما كان أسعد مصراً على عدم تقديم معلومات جديدة غير تلك التي قدمها سابقاً في مقابلات صحافية، ما أوقع الوثائقي في رتابة أسئلة تحفّظ «القواتي» السابق عن الإجابة عليها. وبقي السؤال الأبرز عن الدوافع «الحقيقية» لتوبته، غير مستكشفة في الفيلم. دوافع لم تتوقف المخرجة بما يكفي عندها، وهي تكمن على الأرجح في المرحلة التي تلت الهزيمة في «فندق قادري الكبير» في زحلة، وفي معلومة يسردها الشفتري عن وعود خائبة بمنصب في السلطة عقب الحرب. المحور الثاني يعيد الثقل إلى الفيلم عبر الغوص في حميمية شخصيات الفيلم. تُدخلنا الراهب إلى بيتي مريم وأسعد. يرافق المتفرج الكاميرا وهي تلتقط لحظات وحدتهما، وتعرّفنا إلى زوجة أسعد وابنه وأهله. لحظاتٌ ترينا عائلته التي ترى في الانتداب الفرنسي عصراً مجيداً للبنان، وتظهر خلفيات التخوف من الآخر المسلم والفلسطيني، وجذور الفكر النخبوي المسيحي. كذلك، نرافق زوجة أسعد وابنهما في رحلة استكشاف جوانب أخرى من شخصيته زوجاً وأباً. في المقابل، رفضت مريم أن تزجّ بخصوصيات عائلتها في الفيلم، لكن الأخير لم يخلُ من لحظات إنسانية وشخصية معها. نجحت المخرجة في اختيار مشاهد تقول الكثير عن الصراع الذي تعيشه مريم يومياً، سواء في مشاهد نرافق فيها مريم في وحدتها، أو عندما تنتفض في وجه أسعد، والحزب الشيوعي، وحتى في وجه المخرجة. هكذا نجحت الراهب في تقديم فيلم يثبت أنّنا ما زلنا نعيش آثار الحرب الأهلية، محاولةً رسم الطريق عبر الفن نحو مجتمع معافى. ونجح «ليالٍ بلا نوم» في تعريفنا إلى شخصيتين تمثلان شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني الذي لا يزال مهدداً بشبح الحرب. قصة يجب أن لا نتوقف عن التفكير فيها، علنا نطوي صفحتها يوماً ما.

* «ليالٍ بلا نوم» ابتداءً من حزيران (يونيو) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ــ 01/204080



مقبرتان جماعيتان

في «ليالٍ بلا نوم»، استطاعت إليان الراهب الحصول على اعتراف من أسعد الشفتري، ومحارب آخر في «القوات» بوجود مقبرتين جماعيتين: الأولى في الكرنتينا، والثانية خلف فرع العلوم في الجامعة اللبنانية في الحدث. اعتراف مسجل وموثّق، يُعَدّ بلاغاً للدولة التي يجب أن تتحرك لضم تلك المواقع إلى لائحة المقابر الجماعية التي اعتُرف بها عام ٢٠٠٠، وتعين حارساً لحمايتها، ثم المباشرة في التنقيب عن جثث المفقودين. وفي اتصال مع رئيسة لجنة أهالي المخطوفين، أكدت وداد حلواني أنهم سيتابعون القضية مع محامي الجمعية والدولة اللبنانية.