اخترع الليبراليون الجدد إيديولوجيا سهلة للتلاعب بالوعي البشري يمكن اختزالها بعبارة واحدة «السوط مؤلم، أما المخدّر الروحي فهو ممتع، لنفعل ذلك إذاً، بمساعدة المخدّر وليس السوط». هكذا تفقد الضحية قدرتها على الاختيار، ما دامت رغباتها مبرمجة سلفاً، بفضل «صناعة الثقافة الجماهيرية». هذه الثقافة تحوّل الإنسان إلى رجل آلي مبرمج يظن أنه يرفل بالحرية الفردية، لكنه في الواقع عالق في مصيدة فئران. أفكار يطرحها سيرجي قره - مورزا (1939) في «التلاعب بالوعي» الذي صدر عام 2010 (الهيئة العامة السورية للكتاب ــ ترجمة عيّاد عيد). ينطلق الباحث الروسي من مرجعية محليّة في قراءة آلية الصراع بين أفكار النظم الشمولية والليبرالية، وانخراط نخب المجتمع المدني في فضائل الليبرالية الغربية وخدعة الديموقراطية، ويتساءل أولاً: «ماذا يحدث حين نغرس فجأة قواعد ديموقراطية في مجتمع ذي تصورات شمولية عن الإنسان والسلطة؟». يجيب بأنّ الديموقراطية التي تجلبها قوات المشاة العسكرية الأميركية كثمرة رائعة من ثمار ما وراء البحار، ستكون هجينة، ومزيجاً وحشياً من المعايير والمفاهيم للتحكّم الاجتماعي والتلاعب بالوعي من طريق «التسلل تحت الجلد». لا يستثني مورزا تقنيات الإيديولوجيا الشيوعية، أو الجيش الأحمر، فهما، حسب قوله، الوجه الآخر لما يحصل اليوم في روسيا، لكن من موقع السوط لا المخدّر الروحي. التلاعب بالوعي برؤية أخرى يشبه حرب جيش مسلح من الغرباء، قليل العدد ومنظّم جيداً ضد مجموعة هائلة من البشر المسالمين غير المستعدين لهذه الحرب. هذا ما جرى في فرنسا وبريطانيا، ثم في الاتحاد السوفياتي في ظل البيريسترويكا، نظراً إلى غياب المناعة «لقد كمنت لعبة الخفة البورجوازية في إنجاز هذه الثورات بأيادي الآخرين تحت شعار: البروليتاريا تناضل والبورجوازية تتسلل إلى السلطة» والاستفادة القصوى من عقيدة علم الميكانيك «الله لا يلعب النرد» وبمعنى آخر إعادة تشكيل الكتلة وتحطيم المنظومة المستقرة، وذلك بتحويل اللغة إلى أداة هيمنة سلعية في المقام الأول، وفصل الكلمات عن الأشياء، واجتثاث قدسية اللغة الأصلية لمصلحة قوانين السوق، بالإضافة إلى استثمار لغة الصورة ذات التأثير الخفي، ولاحقاً الكوميكس بقدرتها على الاستحواذ (مزج النص والأشكال البصرية). ويرصد هذا البروفسور في تاريخ العلم والتقنيّة، أنماط التلاعب بالوعي، من طريق المخيّلة والذاكرة والمشاعر والأساطير المضيئة، مؤكداً استثمار ظاهرة الجمهور، وتصنيع الحشود وتهييج الخوف الهذياني وضخه في مفاصل المجتمع لإمرار برنامج مضاد يفتقد الحد الأدنى من المثل الأخلاقية، والانضواء تحت معايير أخلاقية وجمالية أفرزتها حقبة ما بعد الحداثة. الحقبة التي أنتجت «مجتمع المسرحية» الذي يقوم على التضحية بعدد كبير من الكومبارس، وصرف انتباه الجمهور عمّا هو جوهري بمزيد من «المهيّجات» الجانبية التي تنسيه مجريات الواقع، مثلما تعمل على «تدمير الذاكرة التاريخية»، وإنشاء أساطير سياسية معاصرة وتحصينها بتقنيات جديدة. على رأس هذه الأساطير تأتي «المركزية الأوروبية» التي سعت بإلحاح إلى قمع الشعور التاريخي والتلاعب بالزمن لمصلحة «أسطورة الإنسان الاقتصادي»، أو «حرب الجميع ضد الجميع» في ظل منظومة إعلامية ضخمة اسمها «وسائل الإعلام الجماهيري» بوصفها أداة للتأثير في الرأي العام. وإذا بالموضوعية تذهب إلى الجحيم، فالمهم في صحافة اليوم اختلاق الحقائق (الكذب المباشر)، والصمت عن المعلومة التي تتناقض مع مصلحة السلطة، وبناء واقع افتراضي عوضاً عن عكس الواقع باستنفار مبدأ «ديموقراطية الضجيج»، ما يعقّد على الفرد «عملية البحث اليائسة عن المعنى»، واغراقه في مصطلحات وتعريفات تنسف اللغة القديمة وتقلب مفاهيم الحق، بالإضافة إلى الخفض التدريجي للمستوى الفكري للأخبار. إذ تتحوّل إلى أداة لنشر الغباء، وترسيخ صورة نمطية في الوعي من طريق التكرار. هكذا تمكّنت وسائل الإعلام، وخصوصاً المرئية من تهشيم المعلومة إلى مقاطع وإرباك الجمهور في الإعلانات والأخبار العاجلة، ما يؤدي في النهاية إلى تفتيت «سلسلة الزمن» أو «قصف الوعي المستمر بالإثارة، وهو ما يؤدي إلى انخفاض المقدرة على الإدراك النقدي»، بقصد إقصاء المعرفة الكاملة والنهائية واستدراجه إلى واقع وهمي، كما لو أنه حقيقة مؤكدة.