لا أدري بما فكّر المثقفون العراقيون ممن حضروا فعاليات افتتاح «بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013»، ومعهم المثقفون العرب (بعضهم كان ضيفاً مزمناً على فعاليات الثقافة في عراق صدام) وهم يستمعون الى كلمات المرحّبين، أولهم بالطبع السيد رئيس الوزراء نوري المالكي، وقد أتحفه وزير الثقافة حامد الراوي وهو يقدمه بلقب «راعي الثقافة» جرياً على عادة الحكام في العراق. ثم وهم يستمعون الى أنشودة «هنا بغداد». بعدها عزف منفرد لنصير شمة.
المثقفون يهزون روؤسهم طرباً في خيمة الاحتفال المنصوبة على عجل في متنزه الزوراء بديلاً من دار الأوبرا المؤجلة لعقود أو المسارح المخربة والمحترقة. المثقفون الذين يصفقون طرباً لشمة، لن يتذكروا فصلاً آخر من الجحيم العراقي بطبعته الأخيرة المستمر لعقد كامل، آخره يوم 21 آذار (مارس). وهو، للمفارقة اليوم الذي بدأت فيه العمليات الحربية لما عرف عالمياً بحرب العراق أو الحرب ضد العراق. لكن بعض فقهائنا سمّوه، للنكتة ربما، حرب تحرير العراق. عشر سنوات من احتلال البلاد لا تنتهي باختيار الأونيسكو «بغداد عاصمة الثقافة العربية». ولا أدري أهي مصادفة أم نكاية أخرى بالبلاد ومثقفيها أن يتوافق الاختيار مع الذكرى العاشرة للاحتلال؟ وزارة الثقافة العراقية، الجهة المعنية بالحدث، أرادت أن يكون لها حضور خاص ومميز، فاختارت يوم 23 آذار (مارس) موعداً لانطلاق الفعالية بفارق يوم واحد عن أعياد النوروز، وبفارق آخر أهم من الأول أزعم أنه كان حاضراً في ذهن القائمين على الوزارة. قبلها بيومين، بدأت العمليات الحربية ضد نظام صدام. أهي مصادفة أخرى؟ لا أعتقد. المؤكد أنّ اختيار الموعد حكمته فرضية الوفاق الوطني كونه يتوافق مع العيد القومي للكرد، وهو كذلك بداية الربيع. لكن الموعد يحمل إشارة واضحة الى أنّ عراقاً آخر مختلفاً جذرياً عن عراق الديكتاتور يولد الآن. بعده بقليل، سيحلّ التاسع من نيسان (أبريل) بمشهدية السقوط المدوي للديكتاتور في ساحة الفردوس. لكن، هل سعت وزارة الثقافة حقاً الى ترسيخ فكرة الربيع والعراق الجديد؟ أشكّ. ولنبدأ من أول الحكاية. لا تجد وزارة الثقافة من رمزية مفارقة فائقة الدلالة على الصورة الجديدة المختلفة للوطن سوى دلالة الخيمة: خيمة كبيرة تتسع لأكثر من 1200 مدعو. ومن هذه الخيمة، انطلقت فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية. فأي سخرية أن تكون الخيمة بديلاً من بناء البلاد؟ خصصت الحكومة مبالغ كبيرة تقدر بـ 500 مليون دولار لإدارة الفعالية على مدار سنة كاملة، وهي ميزانية كان بإمكانها أن تفعل الأعاجيب لو استثمرت لصالح بغداد كمدينة وعاصمة تحتاج الى إعادة تأهيل كلية. ولنتحدث في الوقائع: بغداد ـــ في حقائق اليوم ـــ أبعد ما تكون عن كونها عاصمة للثقافة، فالأخيرة تعني توافر المنشآت الثقافية وحركة ثقافية فاعلة ومؤثرة في البلاد يمكنها أن تنتج فهماً جديداً لدور الثقافة وأهميتها في حياة الناس. لنقف أولاً عند قصة المنشآت الثقافية، فكم مسرحاً في بغداد؟ وكم صالة عرض؟ وكم دار نشر حقيقية تتخذ من بغداد مكاناً لها؟ الوقائع تقول إنّ هناك مسرحين رئيسيين في بغداد (المسرح الوطني ومنتدى المسرح) وهناك مسارح صغيرة كمسرح «سميراميس»، فيما لا يزال «الرشيد» أكبر المسارح البغدادية مخرباً، ومثله مسرح «بغداد» صانع الحداثة المسرحية في العراق وقد تحوّل الى مكب للنفايات. ومع ذلك، فإنّ قصة المسارح أهون بكثير من حكايات السينما المفقودة في بلادنا، فلا توجد صالة واحدة في بغداد. وقد جرى هدم بعضها، فيما سعى بعض المهتمين بفن السينما بجهود خاصة الى توفير صالات عرض محدودة. ولا أدري أين ستعرض الأفلام المنتجة والممولة من قبل وزارة الثقافة لصالح فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية؟ وفي مجال النشر، لا يوجد سوى «دار الشؤون الثقافية» المتعثرة مالياً وهي دار النشر الحكومية الوحيدة، وتواجه عزوفاً من قبل المثقفين بمختلف تخصصاتهم بسبب الروتين والبيروقراطية المدمرة. وهناك توجه عام نحو طبع الكتاب العراقي في المنافذ العربية. المؤكد أنّ الدور العراقية الكبيرة غير معنية بالفعالية، فيما تحاول الأخرى أن تفيد منها تجارياً على الأقل. أغلب المثقفين العراقيين يتحدثون، همساً أو جهراً بأنّ الميزانية المقترحة كان بإمكانها أن تبني مثلاً عشرة مولات كبيرة تحتوي على صالات سينما ومسارح، أو أن تشرع في توسيع المتحف الوطني العراقي المغلق، وتستعيد جثامين كبار مثقفي العراق المنفيين والمدفونين في بقاع الأرض المختلفة: قبر الجواهري أو مصطفى جمال الدين أو البياتي أو نازك الملائكة. والأهم أن تتحول تلك القبور الى متاحف أو مزارات ثقافية كبيرة.
وزارة الثقافة بمشارب وزرائها المختلفة، من الإرهابي الى الوزير الحالي، فشلت في إيجاد مؤسسات ثقافية مناظرة لدولة عربية جارة، لا نتحدث عن مصر، بل عن الكويت الصغيرة مساحة وسكاناً وقد نجحت في خلق مؤسسات ثقافية تعمل وفق آليات حقيقية. ترى، عن أي ثقافة نتحدث؟ ثقافة الناجين سهواً من بطش الديكتاتور وحروبه، أم ثقافة القادمين من مدن الجوار الإسلامي، أو تلك البعيدة الضائعة في الضباب والجليد؟ حقاً، أي ثقافة عربية تريد بغداد أن تكون عاصمةً لها؟ لا أدري. البلاد الخارجة من معطف الديكتاتور، وقد بددت عشر سنوات ـــ وربما لديها الرغبة في تبديد المزيد ـــ لم تجر أي نقاش جدي يشارك فيه الجميع لحقبة «البعث»، وهي الفترة الأطول في تاريخ العراق الثقافي والسياسي الحديث. بغداد حاضرة الدنيا، وعاصمة البلاد الأكثر إثارة للجدل، وصانعة الثقافة لقرون مديدة، تستحقّ مهرجاناً حقيقياً تنهض به مسارح كبرى، وأوبرا يقصدها الناس للفرح والمسرة، وصالات حديثة للسينما، لا أن تتحول الثقافة باسمها الى فعالية لسلطة تعجز عن حماية نفسها، تاركةً شعبها للبطش الطائش. أتذكر الآن أحلام صديق عبر معي بعد أشهر من احتلال بغداد فوق الجسر باتجاه الباب المعظم. قال لي: «تخيل صورة بغداد بعد عشر سنوات. تخيل لو أنّ شارع الرشيد قد تحوّل الى غاليريهات ودار أوبرا وصالات سينما حديثة، تخيّل لو تم تحويل مباني وزارة الدفاع الى متاحف للفن العراقي». من مكاني على الجسر قلت له: «نعم، تخيّل أن تتحول وزارة الدفاع الى متحف للمدينة، للعاصمة». البعثيون تخيلوا مشهد البلاد من قبل. تخيّلوا الشارع الرابط بين النجف وكربلاء مزروعاً بالأشجار لمنع العواصف الترابية من اجتياح البلاد. لكنهم سلموا البلاد بعد 35 سنة مقبرة كبرى. بدلاً من الأشجار، زرعوا ذلك الشارع بالجثث لنكون إزاء أكبر مقبرة في العالم سمِّيت للنكاية مقبرة «وادي السلام». نعم، تخيّل أن بغداد عاصمة للثقافة، تخيّل الخيمة بدلاً من الأوبرا والسينما والمسرح... نعم تخيّل.
*كاتب عراقي



يوم الهيروشيمات

كتب سعدي يوسف عن توقيت افتتاح بغداد عاصمة الثقافة: «أيها المثقفون العرب، اذهبوا إلى بغداد المحتلّة لترقصوا في دم العراقيّين. عصابة العمائم العميلة، المتسلطة على العراق، لم تجد غير 23 آذار موعداً لافتتاح ما سُمِّيَ بغدادَ عاصمةً للثقافة العربية. أيّامُ الله كثيرة. لكنّ 23 آذار هو يومٌ من أيام الشيطان (...) يوم جزمة الجندي الأميركي على رقبة العراقي. هو يومٌ قُتِل فيه مليون عراقيّ. هو يوم الهيروشيمات الثلاث العراقية».