ماذا عن الموهبة الضائعة؟ الموهبة التي يفترض بها إلهام كثيرين، فإذا بها تختفي وتتبدد في الطبيعة؟ ربما الموهبة الحقيقية لا تموت. بهذه القناعة يخرج المشاهد للفيلم الوثائقي «البحث عن رجل السكر» الحائز الأوسكار هذه السنة. سيكستو رودريغيز (1942) الذي كان ليصير من أشهر الأصوات الموسيقية في أميركا، تُرك للضياع. لكنّ صوته ذهب إلى الجزء الآخر من الكرة الأرضية، وألهم الجنوب أفريقيين في عزّ همجية الأبارتهايد. كان صوتاً من لا صوت لهم وصار لغنائه بريق فاق بريق الـ«بيتلز» وإلفيس بريسلي، وبوب ديلان مجتمعين.إلى البلد الأفريقي، وصلت أسطواناته كالسلعة المهرّبة. الصدفة أرادت لهذا الغريب الأميركي زرع الأمل في قلوب السكّان الأصليين المعرضين لكل أصناف العنصرية. لم يدر أحد مَن هو الرجل الذي يجلس القرفصاء على غلاف الأسطوانة ويمنحهم ابتسامة هادئة. لكنهم علموا أنّه صوتهم في الحراك المدني من أجل نيل حقوقهم. ترددت قصص كثيرة عن حياة وموته. قيل إنّه أضرم النار بنفسه على خشبة مسرح بعدما أدى إحدى أغنياته. وقيل أيضاً إنه أخرج مسدساً وأطلق رصاصة على رأسه، وتناسلت الحكايات عن اختفائه. مالك بن جلول (1977) السينمائي السويدي ذو الأصول الجزائرية لحق برجل السكر، فنقل في فيلمه Searching for Sugar Man قصة بعث رودريغيز إلى الحياة بعد ثلاثة عقود من النسيان.
رودريغز روّض هذا النسيان. بعد ألبومين لم يحققا صدى في الأسواق الأميركية، استسلم للاختفاء المباغت. أصابه بعض الحزن، هو الذي عوّل كثيرون ممن عملوا إلى جانبه على أن يصير أحد أبرز مغنّي جيله. لكنه حافظ على حكمته ونظرته الثابتة إلى الأرض، هو الذي عاش دوماً في قاع المدينة الصناعية ديترويت كابن عائلة مكسيكية مهاجرة. على مدى ثلاثة عقود، صارت مهنته هدم المباني بدل تشييد القصائد وغنائها. ارتضى العيش فقيراً، وظل يعزف لنفسه وللمقربين منه. لكن هناك، في جنوب افريقيا، كانت أسطورة حياته وموته تكبر. صحافيون وموسيقيون نجحوا عام 1998 في العثور عليه بعد جهد استقصائي فريد. قرأوا قصائده بحثاً عن أي إشارة إلى المدينة التي أتى منها، وطبعوا على علب الحليب نداء بحث عن المغني، وأطلقوا منتدى الكترونياً لمعجبيه. بعدها، حدثت المعجزة وعاد رودريغيز إلى الوجود بفضل ابنته التي اطلعت على النداء.
في فيلم مالك بن جلول، تستعاد قصة «البحث عن رجل السكر». يصير البحث حبكة الفيلم. نلتقي المدن والأشخاص من ديترويت إلى جوهانسبورغ. كل لقطات الفيلم تلجأ إلى تقنية الـ Travelling كأننا في حركة إلى الأمام، كأن البحث قائم. الدقائق الثلاثون الأولى من الفيلم تراوح بين موسيقى رودريغيز وبين شهادات منتجين وموسيقيين عملوا إلى جانبه انطلاقاً من العام 1968. كلهم عملوا إلى جانب كبار الموسيقى، وكلّهم أجمعوا على أنّ الرجل كان ليدخل المجد لولا مكر صدف الحياة. بعد الدقيقة الثلاثين، يأتي تعليق مخرج الفيلم، ونلتقي رودريغيز الذي يعيش في البيت ذاته منذ أربعين عاماً. يحكي قصته بالكثير من الهدوء. يُقلّ من الكلمات، لكنه يحفظ ابتسامة حكيمة. الفيلم عن ردريغيز وموهبته لكن بعيون الآخرين: رفاقه في العمل، أصدقاؤه، بناته، ومعجبوه الذين لم يلتقوه، لكنّه ألهمهم. صُوّْر الفيلم على مدار سنوات. نرى الرجل يسير متعثراً في الثلج شتاءً، وبهدوء الشيخ الطيب في الربيع. ماذا عن الموهبة التي ضلّت طريقها؟ ماذا عن هذا الخطأ الوجودي الذي يدفع الكثير من المبدعين الحقيقيين إلى مساحة الظل؟ وماذا عن الصدفة التي تعيد بعضهم من قبر النسيان؟ لا أحد قد يجيب عن هذه الأسئلة. لكن «البحث عن رجل السكر» يرينا كم قد تكون الحياة ممزقة وهشة وطيبة ومدوخة في الكثير من الأحيان، وكيف يمكن لرجل مهزوم أن يطبع ذاكرة جيل بأكمله في بلد يبعد آلاف الأميال.



«الانفجار» آت

لم يعرف اسم سيكستو رودريغيز كثيراً في الولايات المتحدة. الابن الذي ولد لأب مكسيكي هاجر إلى أميركا في عشرينيات القرن الماضي، لطالما تطرّق إلى العشوائيات والأحياء الفقيرة في أعماله. وجدت موسيقاه صداها في جنوب أفريقيا التي كانت تعيش تحت حكم الأبارتهايد. أغنيات كـ«هذه ليست أغنية، إنها انفجار» و«إنني أتساءل» التي انتقدت الحكومة الجنوب أفريقية، لاقت استحساناً لدى الطبقة الوسطى من أبناء العرق الأبيض الذين كانوا يخشون الاعتراض على سياسة الحكومة العنصرية بحق السكّان الأصليين. وسرعان ما تحوّلت أغنياته إلى رمزٍ للاحتجاج، ملهمةً العديد من الفرق الموسيقية ومنها Big Sky.