القاهرة | رغم أنّ مصطلح «السينما المستقلة» ظهر في أوروبا والولايات المتحدة أواخر الستينيات، إلا أنه منذ تداوله وهو محل جدل في أوساط السينمائيين. في البداية، كان تمييزاً للسينما التي خرجت من سياقات إنتاج القطاعين الخاص والعام، مبتعدةً عن الشروط المقيدة للإبداع التي تفرضها المؤسسات الحكومية والشركات الكبرى وتقوم على معايير تمنح الأولوية لأبجديات السوق، ونظام العرض والطلب.
وبعدما انتشر هذا النوع، كثرت الأسئلة التي ذهبت إلى أنّ التمرد الذي بدأته هذه السينما تجاوز مسألة القيود الاقتصادية، وإمكانية الإنتاج بإمكانات بسيطة إلى طريقة تنفيذ هذه الأفلام، ومضمونها الفني وما تقتضيه من رؤية وجرأة على التجريب. يقول السينمائي المستقل الأشهر جيم جارموش: «إنني مشوش بعض الشيء مما أراه على ساحة السينما المستقلة، ولم أعد أعلم ماذا تعنيه هذه الكلمة! بالنسبة إليّ، هي تعني امتلاك السيطرة على عملك، وصنعه بدافع حب السينما».
صورة هذا النوع في أوروبا وأميركا إذاً أنه تمرد فني واقتصادي وخروج عن القوالب والأنماط السينمائية السائدة، وفتح الباب للتجريب، بغض النظر عن الكلفة المادية. هكذا، رأينا في 2012 فيلماً مستقلاً مثل «كلاود أطلس» بكلفة قدرها 100 مليون دولار، ليكون بذلك الفيلم المستقل الأعلى إنتاجاً في تاريخ هذا النوع.
أما في مصر، فقد ظهر مصطلح السينما المستقلة، بالتزامن مع ظهور تقنية التصوير بكاميرا الديجيتال بكل ما توفّره من موارد مالية ومن فرصة لإنتاج أعمال بكلفة بسيطة والهروب من جحيم الرقابة. يرى المخرج المصري محمد خان أنّ «هذا التيار من السينما يسمّى تيار «سينما الديجيتال»، وهذه هي التسمية الصحيحة. أما مستقلة أو Underground فهذا مجرد شكليات دعائية. وأنا أشجع هذا النوع من السينما المسمّى ديجيتال، فهو المستقبل. إنّها أفلام تعرض مباشرة بآلات عرض ديجيتال محترفة من دون الحاجة إلى تحويل الأفلام إلى 35 ملم».
من الممكن توسيع نطاق مفهوم السينما المستقلة في مصر خارج التقنية المستخدمة في تنفيذ هذه الأفلام، فلا تكفي معايير كالكلفة القليلة، واستخدام تقنية الديجيتال لتأطير هذا النوع. والمتواتر أنّ أولى التجارب التي حركت الحياة السينمائية المستقلة في مصر هي فيلم «عين شمس» (2008) لإبراهيم البطوط الذي يحكي قصة دكتورة ذهبت إلى العراق قبل الغزو للبحث في موضوع اليورانيوم. أثار الفيلم ضجيجاً في مصر على مدار عام بسبب مدى أحقية مخرجي السينما المستقلة في تصوير أفلامهم بعيداً عن سطوة النقابات الفنية المصرية وجهاز الرقابة والجهات الأمنية التي تشترط الحصول على تصريح قبل التصوير. يومها، رفضت الرقابة المصرية عرض الشريط؛ لكون «سيناريو الفيلم لم يحصل على الموافقة قبل التصوير». من هنا تكمن أهمية «عين شمس» الذي خاض حرباً شرسة لعرضه في الصالات بوصفه فيلماً مصرياً لم تنتجه الدولة أو شركات الإنتاج الكبرى، وهو الأول من نوعه في مصر الذي يُحوَّل من ديجيتال إلى 35 ملم.
بعد البطوط، جاء فيلم «هليوبوليس» (2009) لأحمد عبد الله من إنتاج الشركة نفسها (هاوس). نجح في الحصول على حق العرض في الصالات وتحويله من الديجيتال إلى 35 ملم. تدور أحداث الشريط حول خمس قصص متوازية تدور في حي واحد وتتناول أشخاصاً بالكاد يعرف بعضهم بعضاً، وبالكاد تتقاطع حياتهم. بينما تزدحم القاهرة شيئاً فشيئاً، تبقى التفاصيل الصغيرة تحكي حكايات سكانها وأحلامهم. جاء عام 2010 تتويجاً لمجهود سينمائيين استمروا على مدار سنين في خلق فرصة وجود لهم بين الشركات الكبرى التي تغولت في السوق المصرية، فعرضت «عين شمس» للبطوط و«هليوبوليس» و«ميكروفون» لأحمد عبد الله و«بصرة» لأحمد رشوان، لكن من دون صمود تجاري أو نجاح جماهيري رغم الحفاوة النقدية بهذا النوع الجديد.
قامت «ثورة 25 يناير»، فشهد السوق توقفاً مؤقتاً، فتعاظمت أسئلة السينما المستقلة عن إمكان تغيير قوانين الرقابة الصارمة وقوانين العرض. كانت الثورة نفسها موضوعاً يشغل هؤلاء السينمائيين كنقطة مفصلية في خريطة المجتمع المصري، ما جعل إبراهيم البطوط يحاول التعبير عن تورطه العاطفي بالثورة من خلال قصة «الشتا اللي فات» الذي يحكي ثلاث قصص إنسانية وعلاقتها بالثورة. فيما جسّدت هالة لطفي في «الخروج إلى النهار» الثورة من خلال رؤية فنية تصوّر شجاعة أم وابنتها في مواجهة عجز الوالد المشلول وفقر العائلة. في النهاية، لعلّ ما ينقص السينما المستقلة في مصر هو هيكل تنظيمي يسهم في تثبيت موقعها أمام موجة الأفلام التجارية الخفيفة، فيما تقف اليوم أمام تحديات كثيرة أولها الرقابة والموارد المالية، والأهم استقطاب الجمهور!