في مجموعته الجديدة «أنا من أرض كلكامش» (الجمل)، يستثمر خالد المعالي العنوان كتعويذة ضد المحتوى. قد لا يكون ذلك تقنية متعمّدة، ولكن رغبة الثبات في المكان الأول، وحلم العودة إليه، مترجمان بأكثر من طريقة في المجموعة. كأن الانتماء الذي ينبعث من العنوان هو حصيلة معكوسة لأسفار الشاعر وإقاماته المتعددة في المنافي. لا يتأخر الشاعر العراقي في ترجمة ذلك على أي حال.
هناك خيط من المفردات والصور التي تتكرر في أغلب القصائد، وتصنع مزاجاً شعرياً يثابر فيه الشاعر على فكرة السير والانتقال وقطع المسافات. شخص القصيدة هو شخص سائر، فهو «لم يفكر في حياته، حينما سارَ»، و«ناله الحزنُ، وهو سائرٌ، يرعى في البيداء بنات أفكاره»، و«أراد أن يشقّ الطريق بنفسه، غير أن الذكريات لم تدعْهُ»، وهو من يقول لنفسه: «أبكي كلّ مرة على نفسي، أنا الذي سرتُ من بلاد بعيدة إلى أخرى»، بينما «كل الذي كان، كل الذي يكون، يدفعه من جديد، لكي يسير، ويغني بصمت». مطاردة مفردات السير والعبور لا تحتاج إلى جهد كبير كي نعثر عليها متلبّسة في صفحات كثيرة، ولكن ذلك ليس سوى سطح القصيدة الذي ينبغي أن يُرشد القارئ إلى أحشائها.
الشعر سَيْرٌ آخر في المعجم والمخيلة. سيرٌ يتوازى مع سيرة حقيقية تتحول إلى تجربة للكتابة: «كان يريد أن يتعلم الشعر، أن يمسك بالصورة، بالبيت، بالقافية. سار وحده، ثوبه ممزق ونهارُه يلوح بنيرانه، تشبّث بكل بارقة أمل وبكل نأمة. المكان الذي أنَّ فيه، لم يعد يستطيع أن ينساه، أن يجرجره إلى آخر الحياة..». لعل هذا المقطع يختزل الرحلة التي يمزج فيها صاحب «الإقامة في العراء» بين السفر في المعجم والسفر في الأمكنة، حيث تكرار الفعل «سار» يعزز هذا المعنى، ولكنه لا يرسم غايةً واضحة بقدر ما يشتت الكائن المسافر، ويجعله عالقاً في فكرة الرحلة التي تتحول إلى جرحٍ شخصي، وإلى سرابٍ يظل يلوح أمام عيني الشاعر وأمام قصيدته، حيث «كل شيء يشدّه إلى الذكرى، إلى صورة الطفل الذي كانه»، وأثناء ذلك يرثي حياته التي «تلاشت أعوامها على الطرق الطويلة»، وينتهي إلى الاعتراف بأن «لا أرض لي لكي أستقرّ/ ولا مأوى لكي أعود/ لا غصن لكي أحطّ».
هذه الإحداثيات الملموسة لرحلة الشاعر لا تلخص الممارسات الشعرية التي تُظهِّرها. الخفوت والحيادية يصنعان نبرة هذه الممارسات، وينقلان عدواها إلى القارئ. خفوتٌ يُنجي الشعر الذي نقرأه من التهويمات البلاغية والسردية، وحياديةٌ تُبعده عن العاطفة المفرطة التي (قد) تهدّد أي كتابة يضطر صاحبها إلى وضع الوجدان الشخصي تحت كل سطر تقريباً. هناك شيء أجنبي في هذا الشعر الذي لا يخاطبنا على نحوٍ مباشرٍ، بل يجرّب إثارة انتباهنا بالتأمل والعزلة والتفلسف. الصفة الأجنبية هي نتيجة ميل مبكّر من الشاعر إلى اللعب على حوافّ هويته اللغوية البديهية، بالتوازي مع مغادرته المبكرة لأمكنة هذه الهوية. بطريقة ما، يُعيد المعالي كتابة شذراتِ من سيرته، ولكن الشعر يحوّل محطاتها إلى صورٍ واستعارات، بينما ضمير الغائب والمعجم المتقشف يعزّزان من حيادية هذه الاستعارات وشعريتها في الوقت نفسه. صفاتٌ تسري على أغلب قصائد المجموعة، وتمنحها روحاً حديثة وموحّدة تتجاوز عناوينها المنفردة: «كنتُ وحدي، دائماً كنت وحدي/ رافعاً يدي في المدن الصغيرة والكبيرة/ ألمي الذي ضاع وجدتُه/ ودمعي شربتُه لكي/ أبكيه من جديد/ كنتُ نفسي حقاً/ ولم أجدني». كأن صاحب «صحراء منتصف الليل» يُجاري نبرته، ويرثي نفسه، ويجرّب كتابة أكثر من ترجمة لرحلة العيش أو «رحلة اللاجدوى» بحسب كلمة عبد العظيم فنجان على الغلاف.



عراقي في ألمانيا

في ألمانيا التي أقام فيها أكثر من عقدين، عثر الشاعر القادم من «أرض كلكامش» على ما يعزّز ثقته بنبرته الخافتة ومعجمه التأملي والفلسفي. ربما ليس للأمر علاقة مباشرة، لكننا لا نستطيع تجاهل تسرّبات طبيعية وذكية من ريلكه وتراكل وهولدرلين إلى خلاصة لتلك الإقامة الطويلة، حيث «الشعر والفلسفة يقيمان تحت سقف واحد»، بحسب تعبير الراحل فؤاد رفقة. في قصيدة «من القادم هذا؟»، مثلاً، يتناهى إلينا مطلع واحدة من أشهر «مراثي دوينو» لريلكه: «من سيأتي إلى الدنيا رافعاً صوته بالغناء الحزين؟ كان قد أنشدنا هذا قديماً، في تلك العصور، لكن الذكريات رثَّت، فلبّى النداء».