نادراً ما نقع بين أجيال ما بعد الحرب الأهليّة، على شخص تسكنه بيروت مثل مروان رشماوي. طبعاً هناك، في اللوحة والتجهيز، مَن سبقه مثل سمير خداج، ومَن يواكبه مثل أيمن بعلبكي. وهناك غسان سلهب الذي لا يحكي إلا عن بيروت في أفلامه، حتّى حين يهرب منها. لكن مروان رشماوي يبدو الأكثر راديكاليّة في حركة الفنّ المعاصر، والاكثر التصاقاً بموضوعه الأوحد. المبدع الشاب الذي شقّ طريقه عالمياً في الفن المفهومي، يعيد خلق المدينة مرّة بعد أخرى، في فضاءات محددة. أكثر من مسكون ببيروت، إنّه مجنونها. يحاول جاهداً أن يؤصّل علاقته بها. ينبش أسرارها، ويحيط بتضاريسها، ويسائل ذاكرتها الجماعيّة. الفنّ كفعل تطويع للمكان. لذا تراه يطارد المدينة كالمهووس، كما العاشق فريسته. مسيرته حتّى الآن محاولات متكرّرة، مختلفة، لتَمثّلِ روحها، لوضع اليد عليها. لسبر أغوارها. الفنّ كفعل انتماء!
في تجهيزه السابق «بيروت كاوتشوك» شيّد خريطة واسعة، بالكاوتشوك الأسود، مجسَّماً طوبوغرافيّاً لبيروت، ودعانا كي نمشي فوقه بحثاً عن حيواتنا العالقة بين الملّيمترات. أما في تجهيزه الحالي في «غاليري صفير - زملر»، فنحن أمام رسم خريطة Mapping من نوع آخر: مخطط «مفهومي» لبيروت، سيميائي وسوسيولوجي أساساً. يعيد رشماوي تنظيم المدينة من خلال اشاراتها، عبر الرموز والصور والمباني والوجوه التي نستهدي بها، وتحدد علاقتنا الحسيّة بالمكان، وتطبع مخيلتنا وجودنا الجسدي والذهني والعاطفي. ملامح المدينة، ليست في شوارعها هنا، بل في مكان هذه الشوارع من المعنى والذاكرة والتاريخ، وضمن كل الانقسامات الممكنة، والمواجهات المحتملة، والتحالفات والمفاوضات. بيروت مختزلة إلى شارات لفرَق متحاربة، مقسّمة تبعاً لتراتبيات هرميّة وعوامل قربى، على أساس التصنيفات الابيستمولوجيّة لأسماء المناطق والأحياء. هكذا نتجوّل وسط غابة من اليافطات والرايات والتجسيدات البصريّة المتدلية من سقف القاعة. تخضع تلك «الرايات» و«البيارق» لتقسيمات حربيّة، تحددها الدروع المنتظمة فوق جدار جانبي يكمش الفضاء على طول مسارنا. والدروع تمثّل خمس فئات كبرى، لكل منها رمزه: العمارة والطبيعة والجغرافيا والطوائف والعائلات.
كأننا برشماوي يشتغل على مشروع واحد، بمحطّات متعاقبة. جامعاً مهمات مأمور المساحة، والطوبوغراف، والمؤرّخ، والباحث الانتروبولوجي والسيميائي، والمخطط المدني، وخبير الاستراتيجيات الحربيّة، والخطاط، والرسام. ينحت بصبر ومنهجيّة الجزئيّات الصغيرة، والاشارات والرموز. يضع الأطر. يصوغ ترجمة بالابعاد الثلاثة لمدينة الحروب الدائمة التي رمت أساطيرها على الشاطئ، واعتكفت داخل جسدها المزروع بالندوب، والمعالم التاريخيّة والدينية، والماركات، والصروح. وكذلك أسماء العلماء والقادة والمفكرين والمحتلين والأولياء الصالحين… ووجوههم. صنّف مروان كل تلك العناصر التي تطبع ذاكرة المكان، ليبني عمارته السينوغرافيّة. خلق ديناميّة تستدرجنا فوق رقعة الشطرنج، لتثير انطباعاتنا وتداعياتنا الذاتيّة في مواجهة منظومة الاشارات البصريّة، هذا إذا كنّا من سكان المدينة. أو ليثير فضولنا إذا كنّا من خارجها… والعنوان الأجنبي للمعرض، يحيل الى حركة في الشطرنج تطيح الملك وتحسم اللعبة:
Fortress in a Corner, Bishop Takes Over. أما العنوان العربي فهو «من بيروت إلى العالم»، من وحي تمثال المهاجر اللبناني على جادة شارل الحلو («أبو الزلف» كما يسمّيه مروان في احالة إلى شخصية شهيرة عند زياد الرحباني). من بيروت المدينة التي تهرب منّا باستمرار، تنزلق بين أصابعنا، وتفلت من أهلها، تضيق بهم، تحتجب عنهم خلف المتاريس والأسوار والاسلاك الشائكة وأدغال المستثمرين. من بيروت التي تنسى دائماً، وتمحو نفسها دوريّاً، وتضيع بين جماعاتها المتناحرة أو المتعايشة. والنتيجة واحدة في نهاية المطاف: إننا أيتام المكان. بهذا المعنى مشروع مروان رشماوي مشروع تمرّد ومقاومة. يخلق مدينة افتراضيّة على مقاساتنا، ويدعونا الى استعادة ذواتنا الهاربة.