يعيد هاني نعيم (هنيبعل) تدوير العناوين المستهلكة في كتابه «غرافيتي الانتفاضات ــ رحلة إلى كواليس لغة الشارع» (الدار العربية للعلوم ناشرون)، ليندرج مؤلفه في سياق اختطاف الإعلام للثقافة الذي تكرّس خلال العقدين الأخيرين. أصبحت مادة التقارير الإخبارية وما يدوّن على شبكات التواصل الاجتماعي المحفز الأساسي للكتابة، وباتت وسائل الإعلام الضمانة الوحيدة للاعتراف بالكتّاب وترويج منتجهم.يصطدم دارسو الغرافيتي في الوطن العربي بمسألتين؛ الأولى تتمثل في غياب هذا الفن قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية، ولو أشارت دراسات إلى أعمال تقترب من الغرافيتي لبعض المشتغلين في الدعاية والإعلان في منطقتنا، والثاني يعود إلى الجدل الدائر حول الانتفاضات العربية التي تظهر مشوشة أو منزوعة من مضامينها الاجتماعية بوصفها حركة تغيير، ما يسبب التباساً في تقويم تعبيراتها الفنية، ومنها الغرافيتي.

يبحث أكثر من كتاب نشر أخيراً في الشعارات والرسوم على جدران وشوارع مدن عربية، ويصنّفها أعمالاً غرافيتية لكونها تعبيراً غاضباً وخاطفاً وسريعاً عن الاحتجاج، ولم يلتفت أحد إلى أنّ الحالة الفلسطينية لم تكف عن تحويل الغضب إلى رموز وكتابات تنقلّت من فلسطين إلى عواصم عربية وبالعكس طوال 65 عاماً. ورغم وضوح غاياتها، إلا أنّها لم تؤسس لفن الغرافيتي حتى اللحظة، بل تبدو المفارقة أنّ الإعلام بدأ يهتم بمتابعة ما يُرسم على جدران رام الله وغزة، مؤكداً على أنّه جزء من تأثيرات «الربيع العربي».
«الطاغية والفضاء العام» كان مدخل نعيم للخوض في تجارب الغرافيتي التي رافقت انتفاضات «عالم ما بين الأزرقين»، مقدماً تحليلاً مجتزءاً ومتعسفاً لاقتران تاريخ المدن وأسمائها بالطغاة الذين دمّروا مدناً أو حاولوا تدميرها والاستيلاء عليها، مستشهداً بهولاكو ونيرون وهتلر، ومستنكراً اختزال بلاد بطولها وعرضها بأسماء الطغاة مثل «سوريا الأسد» و«عراق صدام حسين»... فماذا عن الديمقراطيات التي غزت أفغانستان والعراق والصومال واليوم تغزو مالي؟ وماذا عن البلاد التي تُحتكر باسم ليبرالية السوق، وتُهدد اليوم اقتصاداتها بالانهيار نتيجة توحّش رأسمالياتها الحاكمة؟
ما يسرده الكِتاب في فصل «استرجاع الفضاء العام» ترداد لما بثته الفضائيات في تغطيتها الانتفاضتين السورية والمصرية، مستحضراً نموذجي «كفرنبل المحتلة: من الهامش إلى العالم»، و«ميدان التحرير: فضاء مصر»، فيقارن بين الاحتلال الصهيوني لفلسطين ودخول الجيش السوري لمدن وقرى بلده، كما وصف تظاهر مليوني مصري احتلالاً لميدان التحرير أدى إلى استقلاله. الرؤية المبتكرة للاحتلال ـ بحسب الكاتب ــ تقضي باسترجاع الفضاء العام من يد الطاغية وتسليمه إلى دكتاتورية الإعلام الذي يتلاعب بالمصطلحات والمشاعر والعقول.
يستعير نعيم في فصول لاحقة نموذج الإثارة التي تتبعها نشرات الأخبار ليصوّر رحلته في كواليس الغرافيتي السياسي، ويروي لنا كيف يحدد ذلك الشخص المجهول اللحظة المناسبة للخروج من بيته ليلاً إلى شوارع المدينة ليصرخ بصمت، ويدافع عن قضيته/ مفاهيمه، مقرراً في النهاية أنّه كلما كان ناشط الغرافيتي بعيداً عن الأضواء، كانت أعماله أكثر تأثيراً. وبأسلوب تعليمي، يطرح بضعة أسئلة أمام القارئ ليفكك الغرافيتي السياسي الذي سيلحظه حتماً في مدينته!
رسوم عديدة لـ «غرافيتي النيل» يعرضها الكِتاب، الذي احتفى بالشهداء، وسخر من مبارك ونظامه، وأكدّ على استمرارية الثورة وحرية الجسد، في سياق معركة رموز محتدمة. وبالأسلوب ذاته، يمرّ على «الغرافيتي السوري»، مسهباً في ذكر ملاحقات النظام للرجل البخاخ في اللاذقاني ونظيره الدمشقي، ولم يناقش إلّا شعاري: «ارحل يا بشار/ الجيش الحر يحمينا» مقابل شعار «الأسد أو نحرق البلد». مشهد بيروت كان مختلفاً ليس لطبيعة الغرافيتي فيها، بل لأنّه المشهد الوحيد الذي استطاع المؤلف تقسيمه إلى مرحلتين: قبل انطلاق الانتفاضات وخلالها، وهو في الأولى يثبت أنّ حدود اطلاعه لا تتجاوز مدينته بيروت، وأن رحلته إلى المدن العربية المنتفضة لم تكن إلّا على بساط الإعلام، وفي الثانية، يعود إلى البساط ذاته حين يتحدث عن انقسام المدينة بين ناشطين سوريين ولبنانين وبين «مرتزقة النظام البعثي» وتأثيره في الغرافيتي.
التقاطات هنا وهناك لشوارع ليبيا واليمن والبحرين، يعود بعدها نعيم للحديث عن الغرافيتي والتلفزيون، وينتقل إلى موضوع الغرافيتي في مواجهة ثقافة الاستهلاك، مدللاً بمثال مصري حين قام ناشطون بتشويه إعلان رسمته شركة «ببيبس آند كو» في إشارة إلى مواجهة الغرافيتي للشركات المتعطشة للأرباح غير أن الكاتب لم ينشر تلك الصورة في كتابه!
يصيب الكاتب في خاتمته بالقول إنّ حركة الغرافيتي العربي ستؤدي أدواراً مستقبلية في مواجهة أي دكتاتوريات محتملة، لعلّ أهمّها تخليص الثقافة من سطوة الإعلام، وحينها فقط سنشهد نقداً إبداعياً متماسكاً عن الغرافيتي.