يتشابه مشهد قطع رأس تمثال المعرّي، قبل أشهر، في مدينة معرّة النعمان، مع مشهد قطع رأس مئذنة الجامع العمري في درعا، رمزياً وبصرياً، وإن كان من موقعين مختلفين ومتضادين. الأول يمثّل ثقافة الشك، فيما يرمز الثاني إلى ثقافة اليقين. لكن الصراع بين «الصنم»، والمئذنة، لم يجد تمثلاته الثقافية في الساحة السورية الملتهبة لانشغال المحاربين بغنائم أخرى.المفارقة أن يسفّه مثقفون علمانيون حدّة الاهتمام بحادثة قطع رأس تمثال الفيلسوف الضرير، بوصفه «تمثالاً من الجبس لا أكثر، يُمكن تعويضه بتمثال جديد»، فيما جندوا أصواتهم المزمجرة والساخطة في إدانة حادثة قصف المئذنة، رغم أهمية الحادثتين معرفياً لجهة الخسارة، ودلالتهما في رسم مسالك سوريا الغد. هذا الالتباس المتنامي في التفكير، والتعامي المقصود عن احتضار القيم الثقافية الأصيلة، سيراكم بالتأكيد فواتير ضخمة في مواجهة نصّ المستقبل. النص الذي تنبئ مقدماته وحيثياته الإيديولوجية إلى إعادة إنتاج ثقافة العسكر من ضفةٍ أخرى مقابلة، من طريق إطاحة ما هو راسخ وطليعي ونافر بذريعة أن كل ما أنتجته هذه المرحلة بضاعة كاسدة، لا تصلح للتداول، وربما محاكمة نص الأمس المارق، بأثر رجعي.

الانقلابيون القدامى وجدوا في الثقافة حاملاً إيديولوجياً تابعاً، فاختاروا واجهة ثقافية تعبّر عن رؤيتهم، عند الحاجة، لزوم التنويع المجاني، ما سمح ببعض الانزياحات اليسارية المتمرّدة عن السياق، ولكن تلك التي تقع تحت السيطرة، وتجاهلوا ارتدادات ثقافة الظل التي كانت تشاغب في الصفوف الخلفية. هكذا استثمروا عناوين وأسماءً لامعة في المسرح والسينما والتشكيل والأدب، وتركوا أمام هؤلاء فسحة للعب داخل الأسوار بأرجوحة الوقت الضائع، وكان على الأجيال اللاحقة التي ولدت في العراء الإيديولوجي، أن تنظر بانبهار إلى معروضات الواجهة باعتبارها أيقونات مقدّسة، لا يجوز المساس بها، وهي ترفل بالأوسمة، وأعمدة الصحف الرسمية، والشاشات، طوال عقود، فيما لم تحلم هذه الأجيال باحتلال بوصة واحدة من المشهد، أو تتمرّد على شرعية الآباء الروحيين، فاكتفت مضطرّةً بأن تلعب بكرة ممزّقة في ملاعب الأزقة العشوائية، من دون أن تحقق أهدافاً ناصعة في المرمى. في حقبة لاحقة، صعد السلّم نجوم الدراما، ومطربو الملاهي الليلية، وليبراليو العولمة، وباتوا المرجعية الثقافية النهائية للسلطة، سواء في المهرجانات الوطنية، أو برامج الطبخ، أو حفلات الأعراس، أو خيم الانتخابات البرلمانية، بمهنة صبابي القهوة المرّة للضيوف، عدا رحلة الشتاء والصيف إلى مضارب الأمراء لتذوّق بلح الأماكن المقدّسة. واجهة متهالكة من التوتياء، ومنتهية الصلاحية، جدّدت أدواتها مع بزوغ شمس «الربيع العربي» بتدريبات عاجلة على شمّ الزهور المتفتّحة في حدائق الجيران، وقطف الثمار قبل أوان مواسمها، و«تزييت المحرّك» بديموقراطية النفط، وإذا بنا نعود إلى منطقة الصفر، وما تحتها، بمسميات وافدة، ووظائف مرحلية، ومصطلحات مغلّفة بدمغة جديدة، تبرر حدّة الصراع، بعيداً من هتافات «الحرية والكرامة»، المدماك الأول للاحتجاجات الشعبية. كل ذلك تحت بند الضرورة الثورية، وتجاهل ما عداها، ولم يعد مستهجناً، على الإطلاق، بأن تكون علمانياً بقفطان طائفي، وعمامة عشائرية، وسيف جاهلي، بدلاً من الدفاع بشراسة عن المواطنة، البضاعة المفقودة في الأسواق، أمس واليوم، ذلك أنّ البربرية المتبادلة، والقطيعية في التضامن والتكافل، ألغت أي فسحة للعقلانية، أقله تأمل المشهد بعين أخرى، أو فحص ما استجدّ على النص، وتضاريس الخريطة، وخنادق المواجهة، كأنّ مطلب «إسقاط النظام» وحده، يكفي لتبرير العنف اللفظي والجسدي، مهما كان هذا النص ركيكاً ومبتذلاً وملغوماً.
لقد اختزل النظام حصة الثقافة التنويرية، بأقل مما يتيحه في العادة إلى حصة أحوال الطقس، كما أهمل، على نحوٍ مريع، حصص الموسيقى والفنون في البرامج التعليمية، لمصلحة الأناشيد والابتهالات والشعارات، وصدّر ثقافة الزي الموحّد، في طوافٍ عمومي، يتدرّج من المرحلة الابتدائية إلى مدرجات الجامعة.
في المقابل، لم يكتفِ بعض ثوريي اليوم باختزال الأسئلة الجوهرية لثقافة الغد، بل ألغى حصة الثقافة كاملة من المنهاج، في وضح النهار، بوصفها ترفاً، ينبغي تجاهله الآن، تحت لافتة «سنعود بعد قليل»، لمصلحة العسكرة، وثقافة الخنادق، ورايات الحريّة العمياء؛ إذ يندر أن نرى من يضع الاستراتيجية الثقافية، على أهميتها القصوى، في واجهة التحدّيات المقبلة، أو العمل على تفكيك ألغام «الهويات القاتلة».
هناك إذاً، تبجيل نوعي وزئبقي ومياوم، لثقافة الصحراء، الدجاجة التي تبيض ذهباً، هذه الأيام، في مقاولات رابحة، على شكل مجلات، ومواقع إلكترونية، ومحطات تلفزيونية، ونشرات ضحلة، ودكاكين لمؤسسات وهميّة، يهيمن عليها ما يمكن أن ندعوه «المثقف العدّاد»، على غرار عدّاد سيارات الأجرة، ولعل هذا وحده ما يفسّر حدّة الندب والتحريض والتهويل على تحطيم مئذنة، وإهمال تداعيات الرأس المقطوع لتمثال المعري. على الأرجح، ستكون المبارزة غداً، بين القلم المكسور، والمسواك!