لم يجفّ بعد حبر كتابة أحرف اسمك على إحدى الأوراق المبعثرة التي آخذها عادة إلى الجامعة، وأسجل عليها ملاحظات الأساتذة حول رسالتي في الماجستير عن الكاريكاتور. بالأمس، كنّا نتحدث عنك، وأحضّر لك الأسئلة كي ألتقيك وأتمتع بحرارة اللقاء مجدداً. لكن بالأمس، غادرتنا بيار صادق. الخبر نزل عليّ كالصاعقة. دخلت حالة الإنكار الفعلي.
أقلّب محطات التلفزة عسى الخبر يكون شائعة. أبحث في صفحات الإنترنت عن اسمك وآخر أخبارك.. لكن تم التأكد من خبر الرحيل. إنها فعلاً لمفارقة، أن يفصل بين لقائنا الأول والأخير سنة كاملة. التقيتك في نيسان (أبريل) الماضي. أتيتَ وقتها من مسافة بعيدة الى مبنى «المستقبل» في سبيرز، بعدما نسيت موعد لقائنا... ربما هي الكهولة. جئت بابتسامتك الحلوة، فتحت لي باب محترفك الخاص، وجلست وراء لوحك وشخصياتك الكاريكاتورية. لم تجلس وراء مكتبك ربما لكسر الحاجز بيننا. كنت مطمئناً واثقاً، لكنك كنت تَحمل حرقة في قلبك لما وصل اليه البلد والناس. تتكدس على مكتبك الخاص عشرات الصحف والمجلات في غرفة أضواؤها خافتة تماماً كما رغبتَ أنت في التواري خلف الأضواء، وتقمّص شخصية «توما» اللبناني الجبلي المحافظ على تقليد الشروال والقبعة القروية. تركت هذه الشخصيات تلعب في الفضاء الساخر. عتبتَ وقتها على جمهور المقاومة الذي أقام القيامة ولم يقعدها بسبب رسمك بورتريه السيد حسن نصر الله. وقتها، أصابك فعلاً الرعب من الأبلسة التي أصابتك ورجمك بالموت جراء ضربة ريشة. لكنك قلت مبرّراً إنك استمتعت بكل تفصيل لفّ ذلك الوجه المليء بالأسرار والعزم. ضربت ألوانك كاسياً هذا الوجه ومعطياً إياه الأبعاد الفنية والسياسية. «وبعدين السيد بحبّ المزح». هكذا ختمت حوارنا بقهقهة اغرورقت عيناك بعدها بالدموع. 50 عاماً أمضيتها تنحت الواقع السياسي والاجتماعي وتعرّيه بمفهومك، وبوجهة نظرك التي لم تخبئها يوماً بل أُجبرت على ترك منابر كثيرة هرباً من خطر خفض صوت رسوماتك. نعم، كان لها صوت ودبت فيها الحياة لتتحرك وترفق بالتعليق الساخر على وقع موسيقى ظلت في وجدان جيل رافقك من lbci عام 1985 الى قبيل مغادرتك إلى شاشة «المستقبل». لم تغرك الوسائل الحديثة التي سهلت لكثيرين عملية الرسم والسرعة الى حد الحرفية في إنجاز الرسوم. لم تعر هذه التكنولوجيا أهمية، ولا الحواسيب ولا لوحات المفاتيح ولا البرامج الفنية المساعدة. ظللت وفياً لريشتك الصغيرة ولألوانك، اكتفيت بلوح ابيض مستطيل تقابله كاميرا تصوّر الرسوم وتقوم بعدها بالمونتاج وبعملية التحريك.
أمس، كتبتُ بعضاً مما أذكره عنك على صفحتي الفايسبوكية، فقال لي أحد الأصدقاء «قبل أن تمتدحيه، عليك البحث جيداً في سيرته. هو اليميني المتطرف الذي بقي لسنوات الى جانب حزبي «القوات» و«الكتائب»». لكن كل ذلك لم يحرك فيّ شيئاً، لا يهمني إلى من ينتمي وفي أي احضان ارتمى. يهمني ما نطقت به ريشته. اقرأ من بُعد مختلف، ما قرأته في عينيه لدى اللقاء. ما سيتركه بعد الرحيل. ستغيب يداه وتبقى الريشة يابسة. لكن الرسوم كما أرادها ستبقى حيّة متحركة كلما نقرنا زر البدء بالمشاهدة لغاية انتهاء الموسيقى.